في قلب بلجيكا، تشهد المحكمة اليوم تطوراً هاماً في المعركة العالمية ضد تغير المناخ. مزارع بلجيكي يرفع دعوى قضائية تاريخية ضد شركة توتال إنيرجي الفرنسية، متهمًا إياها بتحمل مسؤولية الأضرار الناجمة عن ارتفاع درجات الحرارة وتأثيراته المدمرة على القطاع الزراعي، الأمر الذي يعكس تصاعداً ملحوظاً في اللجوء إلى القضاء لمواجهة شركات الطاقة الكبرى. هذه القضية ليست منعزلة، بل هي جزء من موجة عالمية من الدعاوى القضائية المماثلة التي تهدف إلى تحميل هذه الشركات المسؤولية عن أزمة المناخ.
دعوى قضائية ضد توتال إنيرجي: سابقة بلجيكية في مواجهة تغير المناخ
يواجه المزارع هيوز فاليس شركة توتال إنيرجي أمام محكمة تورناي، مطالباً بتعويضات مالية عن الخسائر التي تكبدها نتيجة الظواهر الجوية المتطرفة المرتبطة بـ تغير المناخ. يستند المزارع في دعواه إلى أن أفعال الشركة، وتحديداً إنتاجها المستمر للوقود الأحفوري، ساهمت بشكل كبير في زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة وبالتالي تفاقم أزمة المناخ. وتحظى هذه الدعوى بدعم قوي من منظمة السلام الأخضر، التي ترى فيها فرصة لإحداث تغيير حقيقي في ممارسات الشركة.
قبل بدء الجلسة، صرح فاليس بأنه يأمل في “إجبار توتال إنيرجي على تغيير ممارساتها” وجعل عملياتها “أقل ضرراً بالمجتمع بشكل عام والزراعة بشكل خاص”. تدعو الدعوى القضائية أيضاً الشركة إلى خفض إنتاجها من النفط والغاز بشكل كبير، بهدف المساهمة في إبطاء وتيرة ارتفاع درجة حرارة الكوكب.
تصاعد الدعاوى القضائية ضد شركات النفط عالمياً
لا يقتصر الأمر على بلجيكا، ففي جميع أنحاء العالم، يشهد العقدان الماضيان زيادة ملحوظة في عدد الدعاوى القضائية المرفوعة ضد كبرى شركات النفط والغاز، مثل BP و ExxonMobil و Shell. وفقاً لتقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 2023، فإن عدد هذه الدعاوى قد تضاعف في السنوات الخمس الأخيرة.
حتى الآن، لم تفلح أي من هذه الدعاوى في الحصول على حكم نهائي يلزم أي شركة بدفع تعويضات عن الأضرار المرتبطة بشكل مباشر بـ تغير المناخ. ومع ذلك، يعتبر خبراء القانون البيئي هذه الدعاوى بمثابة “لحظة تحول” في كيفية التعامل مع المسؤولية عن أزمة المناخ. فالهدف ليس فقط الحصول على تعويضات مالية، بل أيضاً الضغط على هذه الشركات لتغيير نموذج أعمالها والانتقال إلى مصادر طاقة أكثر استدامة.
سوابق قانونية في أوروبا: هل تغير مسار التقاضي؟
هناك سوابق قانونية مشجعة للناشطين في مجال المناخ، خاصة في أوروبا. في عام 2021، أمرت محكمة هولندية شركة شل بخفض انبعاثاتها الكربونية في قضية تاريخية هزت أوساط شركات الطاقة. على الرغم من أن هذا القرار تم إلغاؤه لاحقاً عند الاستئناف، إلا أنه قيد المراجعة حالياً أمام المحكمة العليا الهولندية.
وفي ألمانيا، حكمت محكمة ضد شركة للطاقة لصالح مزارع بيروفي، معترفة بأن الاحتباس الحراري يزيد من خطر الفيضانات. هذه الأحكام، على الرغم من أنها ليست نهائية في جميع الحالات، تشير إلى أن المحاكم الأوروبية أصبحت أكثر استعدادًا للاستماع إلى حجج الناشطين البيئيين وإصدار أحكام لصالحهم.
دور التقاضي في دعم أهداف المناخ العالمية
التقاضي المناخي لا يقتصر على استهداف الشركات فحسب، بل يشمل أيضًا الحكومات. فقد أقرت المحكمة العليا الهولندية في عام 2019 بأن حماية المواطنين من آثار تغير المناخ هي حق أساسي من حقوق الإنسان، وأن للحكومة واجبًا حماية هذا الحق. وبالمثل، أيدت محكمة في مونتانا مؤخرًا حكمًا لصالح مجموعة من الشباب الذين يزعمون أن الولاية تنتهك حقهم الدستوري في بيئة نظيفة.
على الصعيد الدولي، أصدرت المحكمة العليا للأمم المتحدة رأيًا استشاريًا في يوليو الماضي، مفاده أن الدول قد تنتهك القانون الدولي إذا فشلت في اتخاذ تدابير فعالة لحماية الكوكب من تغير المناخ. كما أكدت أعلى محكمة لحقوق الإنسان في أوروبا على ضرورة توفير حماية أفضل للمواطنين من عواقب تغير المناخ.
مستقبل التقاضي المناخي: توقعات وتحديات
على الرغم من أن آثار هذه القضايا لم تتضح بشكل كامل بعد، يرى الخبراء أنها تمهد الطريق لإجراءات قانونية أخرى، بما في ذلك الدعاوى القضائية المحلية. ومع ذلك، فإن التقاضي المناخي يواجه أيضاً العديد من التحديات، بما في ذلك صعوبة إثبات العلاقة المباشرة بين انبعاثات الشركات والأضرار المناخية، والضغوط السياسية والاقتصادية التي تمارسها هذه الشركات على الحكومات والمحاكم.
ومع ذلك، فإن الإصرار المتزايد للناشطين البيئيين والمواطنين العاديين، بالإضافة إلى التطورات القانونية الأخيرة، يشير إلى أن التقاضي المناخي سيظل أداة مهمة في المعركة ضد تغير المناخ في السنوات القادمة. فالقضايا مثل قضية المزارع البلجيكي لا تقتصر على المطالبة بالتعويضات، بل تهدف إلى تغيير قواعد اللعبة وإحداث تحول عميق في طريقة تفكيرنا في مسؤولية الشركات عن أزمة المناخ.
