في ظلّ تراكم القضايا وتأخُّر إجراءات التقاضي، أعلنت الحكومة البريطانية عن تعديلات جوهرية على نظام العدالة، بما في ذلك تقليص الحق في المحاكمة أمام هيئة محلفين. يأتي هذا الإجراء بحسب مسؤولين، كضرورة حتمية لتخفيف الضغط الهائل على المحاكم، وتسريع وتيرة العدالة، واستعادة ثقة الجمهور في النظام القضائي. هذه الخطوة أثارت جدلاً واسعاً بين الخبراء القانونيين، الذين عبّروا عن مخاوفهم بشأن تأثيرها على الحقوق الأساسية للمواطنين.
أزمة المحاكم في بريطانيا: الأسباب والتداعيات
تواجه المحاكم في إنجلترا وويلز تحديات جمة، تفاقمت بشكل كبير بعد جائحة كوفيد-19. تشير الإحصائيات الحكومية إلى وجود ما يقرب من 80 ألف قضية جنائية معلقة، وهو رقم يتجاوز ضعف ما كان عليه قبل الجائحة. هذا التأخير الطويل يؤدي إلى معاناة الضحايا، والضغط على المتهمين، وتشوه صورة العدالة.
وقد صرح وزير العدل البريطاني، ديفيد لامي، بأن الوضع الحالي يشكل “حالة طوارئ” تهدد بتقويض الثقة في العدالة. فالتأخير في البت في القضايا لا يقتصر على الإضرار بالضحايا فحسب، بل يضر أيضاً بمبدأ “العدالة الناجزة” الذي يعتبر ركيزة أساسية في أي نظام قضائي عادل.
التعديلات المقترحة على نظام المحاكمة
تتضمن التغييرات الرئيسية التي أعلنتها الحكومة البريطانية ما يلي:
- رفع سقف العقوبات التي يحكم بها القضاة منفردين: سيتم تمكين القضاة من إصدار أحكام تصل إلى 18 شهرًا في الجرائم الأقل خطورة، بدلاً من 12 شهرًا الحالية. هذا يسمح لهم بالتعامل مع عدد أكبر من القضايا بشكل مباشر، مما يساهم في تخفيف الضغط على المحاكم.
- توسيع نطاق الجرائم التي تُحكم فيها من قِبَل قاضٍ واحد: بموجب التعديلات، ستُحكم الجرائم التي يمكن أن تصل عقوبتها إلى ثلاث سنوات أو أقل أمام قاضٍ واحد، بدلاً من الحد الحالي الذي يقتصر على سنتين. هذا يعني أن عددًا أكبر من القضايا لن تتطلب مشاركة هيئة محلفين.
- تقييد حق اختيار المحاكمة: سيتم إلغاء حق المتهمين في اختيار المحاكمة أمام قاضٍ أو هيئة محلفين في ما يعرف بقضايا “في كلتا الحالتين”، وهي القضايا التي تتضمن جرائم متوسطة المستوى. بدلاً من ذلك، ستتخذ المحاكم القرار بشأن كيفية سير القضية.
- محاكمة قضايا الاحتيال المعقدة أمام قاضٍ: سيتمكن القضاة أيضًا من الجلوس بدون هيئة محلفين في بعض قضايا الاحتيال والقضايا المالية المعقدة، وذلك بهدف تبسيط الإجراءات وتسريع البت في هذه القضايا.
المحاكمة أمام هيئة محلفين: تاريخ وجدل
لطالما اعتبرت المحاكمة أمام هيئة محلفين جزءًا لا يتجزأ من النظام القضائي البريطاني، وتعود جذورها إلى الماجنا كارتا عام 1215. تضمن الماجنا كارتا الحق في المحاكمة أمام “أقران” المتهم، وهو المفهوم الذي تطور لاحقًا ليشمل هيئة المحلفين.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا التاريخ الطويل، فقد أثارت التعديلات الأخيرة قلقًا واسعًا بين المجموعات القانونية. ترى جمعية القانون في إنجلترا وويلز أن المقترحات “تذهب أبعد من اللازم في تآكل حقنا الأساسي في أن يتم الحكم علينا من قبل هيئة محلفين من أقراننا”.
وتشير هذه المجموعات إلى أن هيئات المحلفين تلعب دورًا هامًا في ضمان العدالة، لأنها تمثل رأي المجتمع، وتوفر طبقة حماية إضافية ضد التحيز أو الخطأ القضائي. كما أنهم يجادلون بأن المشكلة الحقيقية تكمن في نقص التمويل المزمن للمحاكم، وليس في هيئات المحلفين نفسها.
تأثير التعديلات على قضايا معينة
أكد وزير العدل أن التغييرات لن تؤثر على القضايا الخطيرة مثل القتل، والقتل غير العمد، والاغتصاب، والاعتداء الخطير، والسرقة، حيث ستظل المحاكمة أمام هيئة محلفين هي القاعدة. ومع ذلك، يخشى البعض من أن التعديلات قد تؤدي إلى تآكل تدريجي لحق المتهمين في المحاكمة أمام هيئة محلفين، وأن يتم توسيع نطاق القضايا التي تُحكم فيها من قِبَل قاضٍ واحد في المستقبل.
مستقبل العدالة في بريطانيا
تهدف الحكومة البريطانية من خلال هذه التعديلات إلى تحقيق “عدالة أسرع” للضحايا، وتقليل التكاليف، وتحسين كفاءة نظام المحاكم. ومع ذلك، فإن هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها على حساب الحقوق الأساسية للمواطنين.
من الضروري أن يرافق تقليص الحق في المحاكمة أمام هيئة محلفين زيادة كبيرة في تمويل المحاكم، وتحسين إجراءات التقاضي، وتوفير الدعم اللازم للضحايا والمتهمين على حد سواء. فالعدالة لا تعني السرعة فقط، بل تعني أيضًا الإنصاف والحياد والشفافية.
ويجب على المشرعين، والمحامين، والمنظمات القانونية، والمواطنين، أن يواصلوا النقاش حول هذه التعديلات، وأن يعملوا معًا لإيجاد حلول مستدامة لأزمة المحاكم في بريطانيا، بما يضمن الحفاظ على سلامة النظام القضائي، وحماية حقوق الجميع. إجراء إصلاحات في نظام العدالة، مثل إصلاح نظام التقاضي، يجب أن يكون مدروسًا بعناية لضمان عدم المساس بمبادئ العدالة الأساسية.
