فرنسا تشهد موجة غضب وتصعيدًا في مواجهة تهريب المخدرات في مرسيليا (تغطية خاصة)
شهدت مدينة مرسيليا الفرنسية الساحلية يوم السبت الماضي مظاهرات حاشدة شارك فيها آلاف الأشخاص، للتعبير عن غضبهم واستنكارهم الشديد لجرائم تهريب المخدرات المتصاعدة التي باتت تهدد حياة الأبرياء وتزعزع أمن المدينة. تأتي هذه المظاهرات ردًا على مقتل مهدي قيساسي، الشاب البالغ من العمر 20 عامًا، في حادث إطلاق نار مأساوي، والذي هزّ الرأي العام الفرنسي وألقى الضوء على وحشية عالم الجريمة المنظمة المرتبط بالمخدرات. المظاهرات لم تقتصر على مرسيليا بل امتدت إلى حوالي 20 مدينة أخرى في جميع أنحاء فرنسا، مما يعكس القلق الوطني العميق بشأن تفاقم الأزمة الأمنية المرتبطة بـ تهريب المخدرات.
جريمة قتل مهدي قيساسي.. الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات
لم يكن مقتل مهدي قيساسي مجرد جريمة فردية، بل كان نتيجة مباشرة للاستراتيجيات الإجرامية التي تستخدمها شبكات تهريب المخدرات لتخويف وتعطيل عمل الناشطين الذين يكشفون عن ممارساتهم غير القانونية. وكشف المدعي العام في مرسيليا، نيكولا بيسون، أن التحقيقات الأولية تشير إلى أن الجريمة تم التخطيط لها بعناية بهدف تهديد شقيق مهدي، أمين قيساسي، وهو ناشط بارز ومُناصر قوي لمكافحة تجارة المخدرات وعنف العصابات في مرسيليا.
أمين قيساسي، البالغ من العمر 22 عامًا، والذي فقد شقيقه الآخر إبراهيم في ظروف مماثلة عام 2020، أسس جمعية “الضمير” لمساعدة ودعم الأسر المتضررة من عنف العصابات. هذه المعاناة الشخصية والمعركة التي يخوضها ضد الجريمة المنظمة جعلته هدفًا واضحًا لتهديدات مستمرة. يؤكد بيسون أن مهدي لم يكن له أي علاقة بـ الاتجار بالمخدرات وأنه كان يحلم بأن يصبح ضابط شرطة، مما يزيد من مأساة القصة ويُظهر مدى قسوة هذه الشبكات الإجرامية.
تصاعد العنف المرتبط بالمخدرات في فرنسا.. أرقام مقلقة
لا يقتصر تأثير تهريب المخدرات على مرسيليا فحسب، بل يمتد ليشمل جميع أنحاء فرنسا. ففي عام 2024 وحده، سجلت السلطات الفرنسية 367 حالة قتل أو محاولة قتل، بالإضافة إلى 341 إصابة و110 وفيات مرتبطة بهذه الجريمة. والأكثر إثارة للقلق هو ارتفاع نسبة الشباب المتورط في هذه الجرائم، حيث يمثل الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 20 عامًا أكثر من 25% من المسجونين بتهم القتل ومحاولة القتل، بما في ذلك 16 قاصرًا.
كما أشارت الإحصائيات إلى زيادة كبيرة في كمية المخدرات المضبوطة. ففي عام 2024، تم ضبط 47 طنًا من الكوكايين، وهو ما يمثل أكثر من ضعف الكمية التي تم ضبطها في العام السابق. هذه الأرقام تؤكد أن فرنسا تشهد أزمة متصاعدة في مجال المخدرات تتطلب تدخلًا عاجلًا وشاملاً. وتعد مرسيليا، بتاريخها الطويل كمركز رئيسي لـ تجارة المخدرات، بؤرة رئيسية لهذه المشكلة.
جهود الحكومة الفرنسية لمواجهة الأزمة
استجابة لهذه الأزمة المتفاقمة، أطلقت الحكومة الفرنسية حملة واسعة النطاق لمكافحة تعاطي المخدرات والاتجار بها. تهدف هذه الحملة إلى رفع مستوى الوعي بين المستخدمين بأن عاداتهم تساهم بشكل مباشر في تغذية عنف العصابات والموت. بالإضافة إلى ذلك، أقرت فرنسا قانونًا جديدًا لمكافحة المخدرات في يونيو/حزيران الماضي، والذي يتضمن إنشاء مكتب ادعاء متخصص لمكافحة الجريمة المنظمة، على غرار مكتب المدعي العام لمكافحة الإرهاب.
ووفقًا لوزير الداخلية لوران نونيز، فقد ساهمت الحملة الحكومية في تقليل عدد جرائم القتل في مرسيليا من 49 في عام 2023 إلى 24 في العام الحالي. كما أكد نونيز أن عدد نقاط بيع المخدرات في المدينة قد انخفض بشكل ملحوظ من 160 إلى 80. ومع ذلك، يشدد نونيز على أن مقتل مهدي قيساسي يدل على أن عصابات المخدرات قد وصلت إلى “مستوى جديد من العنف” وأن هناك حاجة إلى مزيد من الجهود للتصدي لهذه الظاهرة.
مستقبل مكافحة تهريب المخدرات في فرنسا
إن مقتل مهدي قيساسي يمثل نقطة تحول في مساعي فرنسا لمكافحة تهريب المخدرات. فالمظاهرات الحاشدة والغضب الشعبي المتزايد يشكلان ضغطًا كبيرًا على الحكومة لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة وفعالية. من الواضح أن الحل ليس في التشديد الأمني فقط، بل يجب أن يشمل أيضًا برامج الوقاية والتوعية، ودعم الأسر المتضررة، وتوفير بدائل للمتورطين في تجارة المخدرات.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على فرنسا أن تعزز تعاونها مع الدول الأخرى لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود، وأن تستهدف الشبكات المالية التي تدعم هذه التجارة. إن مكافحة تهريب المخدرات هي تحدٍ معقد يتطلب نهجًا شاملاً ومتكاملاً، وتعاونًا وثيقًا بين جميع الجهات المعنية، من أجل حماية المجتمع وضمان مستقبل آمن للأجيال القادمة. وهذا يتضمن أيضًا دعم الناشطين مثل أمين قيساسي، الذين يواجهون مخاطر جسيمة في سعيهم لإنهاء هذه الدوامة من العنف.
