وبينما أستعد لبدء تدريب الأطباء والمتخصصين في مجال الصحة العقلية في غزة ضمن مبادرة منظمة الصحة العالمية التي تهدف إلى سد الفجوة بين احتياجات الصحة العقلية والموارد المتاحة، لا يسعني إلا أن أسأل: هل يمكن شفاء القطاع الفلسطيني؟

ويتلخص هدفنا في تعزيز النظام الطبي المدمر في غزة من خلال دمج الصحة العقلية في الرعاية الأولية، ومن خلال تمكين غير المتخصصين من التعرف على الضائقة النفسية والاستجابة لها.

وتم فرض وقف إطلاق النار بعد عامين من الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل. وتظل غزة أرضًا تلهث، وأفقها مكسور، وترابها مغطى بطبقات من الحزن.

وتفيد التقارير أن هناك حاجة إلى حوالي 70 مليار دولار لإعادة بناء المستشفيات والمنازل والمدارس وغيرها من البنية التحتية التي دمرها القصف المتكرر. ولكن لا يستطيع أي خبير اقتصادي أن يقيس الدمار غير المرئي: التفكك النفسي والأخلاقي لمجتمع تم تجريده من إنسانيته وتجويعه للأمل.

هل غزة قابلة للعلاج؟ السؤال في حد ذاته يتطلب التواضع. قد يرى الطبيب النفسي الصدمة. قد يشهد العامل الإنساني النزوح؛ قد يرى المهندس المعماري الأنقاض. لكن جراح غزة هي كل هذا وأكثر.

نشرة ميدل إيست آي الإخبارية الجديدة: جيروزاليم ديسباتش

قم بالتسجيل للحصول على أحدث الأفكار والتحليلات حول
إسرائيل وفلسطين، إلى جانب نشرات تركيا غير المعبأة وغيرها من نشرات موقع ميدل إيست آي الإخبارية

لقد تحولت مدينة غزة إلى جرح واحد كبير. ولا يمكن أن يقتصر شفاءه على القطاع الصحي، ولا يمكن تحقيقه من خلال «خطط التعافي» العقيمة أو «التدخلات النفسية الاجتماعية».

إن ما تحتاج إليه غزة الآن هو عملية شفاء مادية ومعنوية في نفس الوقت ـ عملية تدعو إلى إعادة تنظيم الضمير جذرياً، وليس مجرد عقود إعادة الإعمار.

خسائر فادحة

وقد تعرض حوالي 90 بالمائة من المساكن في غزة للأضرار أو للتدمير. لقد تم استهداف المستشفيات والعيادات بشكل متعمد. وقد سويت بالأرض الطرق وشبكات المياه والجامعات والمحفوظات والمساجد والمقابر.

لكن هذه الأرقام لا يمكنها أن تلخص الخسائر الأعمق: وجوه الأطفال المفقودين من الفصول الدراسية، والأيادي التي كانت تبني ذات يوم وترتعش الآن، والأمهات الخائفات من جلب حياة جديدة إلى عالم يقتل أطفاله الرضع.

إن الدمار الحقيقي يكمن في تآكل الثقة، وتآكل الكرامة، وتطبيع ما لا يطاق. ماذا يمكن أن تساعد أم من رفح تجهز طبقاً لطفلها القتيل كل يوم؟


تابع التغطية المباشرة لموقع ميدل إيست آي للحرب الإسرائيلية الفلسطينية


وحتى بعد وقف إطلاق النار، تتجدد جراح غزة وصدماتها النفسية كل يوم بسبب الحصار والحرمان والإهانة. إن الحديث عن “دعم الصحة النفسية” بمعزل عن العدالة يعني معالجة الأعراض مع تجاهل السبب.

في غزة، يبدأ العلاج بالحقيقة.

عندما يتم تجريد الإنسانية من الالتزام الأخلاقي، فإنها تصبح آلية أخرى للهيمنة؛ نوع من التخدير الذي يضعف الوعي بدلاً من علاج المرض. والمثال البشع لما يسمى بمؤسسة غزة الإنسانية، التي تستدرج الجوعى بالمساعدات الغذائية ثم تنصب لهم كميناً، يوضح هذا الانحراف.

وتحت ستار المساعدة، تم استخدام الجوع كسلاح، حيث تحولت “المساعدات” إلى طعم. وتكشف مثل هذه الأفعال الانهيار الأخلاقي للنظام الدولي الذي حول الإغاثة إلى مسرح آخر للقسوة.

الصدمة في غزة ليست نتيجة حادث أو كارثة طبيعية؛ إنها نتيجة للعنف السياسي المتعمد والممنهج

وبعيداً عن الأخلاقيات، فإن العمل الإنساني يخاطر بإعادة إنتاج نفس المنطق الاستعماري الذي دمر غزة لعقود من الزمن، والذي يحدد من يستحق الحياة ومن يمكن الاستغناء عنه. تصبح المساعدة أداة للسيطرة، حيث تجعل البقاء مشروطًا بالخضوع. إنه الاستعمار من خلال الصدقة.

إن مساعدة غزة تعني أن نكون على علم بالصدمة التي تعرضنا لها ـ وهذا لا يعني تبني أطر غير سياسية مستوردة من علم النفس الغربي. الصدمة في غزة ليست نتيجة حادث أو كارثة طبيعية؛ إنه نتيجة للعنف السياسي المتعمد والمنهجي، الذي يتم تنفيذه مع الإفلات من العقاب ويدعمه الصمت العالمي.

إن التعرف على الصدمة في هذا السياق يعني تسمية الطرف الذي تسبب في تلك الصدمة واتخاذ موقف تجاهه، مع رفض التماثل الزائف بين الضحية والجاني. ولا يمكن أن يكون هناك شفاء في التواطؤ والارتباك والإنكار. وبدون مواجهة مصدر الضرر، تصبح الإنسانية طبقة أخرى من الإضاءة.

إن الرعاية الحقيقية المستنيرة للصدمات يجب أن تحترم قوة غزة ومقاومتها. ويتعين عليها أن تعترف بقدرة تحمل الأسر، والفصول الدراسية تحت الأرض، والفنون الخارجة من تحت الأنقاض ــ ليس باعتبارها “قدرة على الصمود” العاطفية، بل باعتبارها أعمالاً من أجل البقاء تتطلب وعياً سياسياً وتضامناً.

العلاج الروتيني

وحتى مع متابعة المساءلة، فإن سكان غزة لا يستطيعون الانتظار. إنهم بحاجة إلى زيادة فورية في المساعدات – ليس كعمل خيري، بل كحق من حقوقهم.

إن الغذاء والمياه النظيفة والمأوى والرعاية الطبية هي الخطوط الأولى للعلاج الطارئ للسكان الذين دفعوا إلى المجاعة. ومع ذلك، يجب أن تسير جهود الإغاثة جنبًا إلى جنب مع استعادة إيقاعات الحياة الطبيعية: إعادة فتح المدارس، ولم شمل الأسر، وإعادة المراكز الصحية إلى الخدمة.

إنشاء الروتين هو عمل علاجي. بالنسبة للطفل الذي لم يعرف سوى الحرب، فإن كتابة اسمه مرة أخرى على الورق هي بداية الشفاء. بالنسبة للآباء، فإن إيجاد مساحة آمنة للتنشئة والأمل هو بمثابة إحياء للإنسانية نفسها.

ومع ذلك، لا يمكن لأي من هذا أن يستمر دون تحقيق العدالة. إعادة البناء دون حساب هو بمثابة تضميد جرح لا يزال يطعن. لقد أظهرت لنا عمليات “إعادة إعمار” العراق وأفغانستان في مرحلة ما بعد الحرب أنه عندما يتم الاستعانة بمصادر خارجية لإعادة البناء لأولئك الذين يستفيدون من الدمار، فإن الهيمنة تستمر تحت اسم مختلف.

ولا ينبغي لغزة أن تصبح مختبراً آخر للتعافي النيوليبرالي، حيث تملي نفس القوى التي دمرتها شروط ولادتها من جديد.

التاريخ يقدم سابقة مؤرقة. بعد الحرب العالمية الثانية، عقد العالم محاكمات نورمبرج ليس فقط للعقاب، بل للشفاء أيضًا؛ ليس فقط لمحاكمة مرتكبي الجرائم، بل لإعادة تأكيد حدود الضمير الإنساني.

لم تكن نورمبرغ مجرد محكمة قانونية. لقد كانت عملية أخلاقية. الاعتراف بأن العدالة لها تأثير علاجي. ورغم أن نورمبرج كانت رمزاً للصحوة الأخلاقية لعالم أرعبته الفظائع، فإن الإجراءات التي اتخذتها محكمة العدل الدولية بشأن غزة ساعدت في توضيح ما إذا كان هذا الالتزام الأخلاقي حقيقياً ـ أم أنه يقتصر فقط على ضحايا بعينهم.

صمت المارة

هل سيكون لغزة نورمبرغ الخاصة بها؟ هل ستكون هناك محكمة تُقال فيها الحقيقة، وتحدد المسؤولية، وتستعيد كرامة الموتى – مما يسمح للناجين بالبدء في التنفس مرة أخرى؟

وإلى أن يأتي ذلك الحساب، تبقى كل خطة إعادة إعمار وخطاب تعزية ناقصة. يبدأ الشفاء بقول الحقيقة؛ فهو ينضج بالعدالة، ويبلغ ذروته بالتضامن. وبدون هذا التسلسل فإن “المساعدة” التي يقدمها العالم قد تتحول إلى أداة أخرى للإنكار.

بعد الحرب العالمية الثانية، أعيد بناء أوروبا من خلال خطة مارشال لأن شعبها كان يعتبر “متحضرا”. ولكن عندما سعت أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية إلى الحصول على دعم مماثل، خضعت لتدابير التقشف والتكيف البنيوي التي فرضها صندوق النقد الدولي ـ وهي الأدوات الاقتصادية التي استخدمها الاستعمار الحديث.

من المعجزة أن يتم توفير الرعاية العلاجية لسكان غزة المصابين بصدمات نفسية عميقة

اقرأ المزيد »

تواجه غزة الآن نفس الخطر: إدارتها، وليس تحريرها؛ أعيد بناؤها، ومع ذلك لا تزال أسيرة. لقد تعهد العالم بـ “عدم تكرار ذلك أبدا” بعد المحرقة، وأكد من جديد هذا الالتزام بعد رواندا وسريبرينيتشا ــ ولكن نفس النظام العالمي الذي بنى تلك النصب التذكارية هو الذي يدعم الآن إبادة غزة التي يتم بثها على الهواء مباشرة. لقد أصبح صمت المارة جزءاً من الجريمة.

إن شفاء غزة يعني شفاء ضمير العالم. وكل قنبلة سقطت على غزة كانت أيضاً اعتداءً على القانون الدولي وأخلاقنا الجماعية. إن علاج غزة ليس مهمة الأطباء وحدهم؛ فهو يتطلب معلمين ومهندسين معماريين وفنانين ومهندسين – وقبل كل شيء، الجمهور العالمي. ولكل منهم دور في القضاء على الإفلات من العقاب، وفي إصلاح نسيج التضامن الإنساني الممزق.

وكما كانت عملية إعادة إعمار ألمانيا في مرحلة ما بعد الحرب لا يمكن فصلها عن الذكرى والعدالة، فإن تعافي غزة لابد أن يكون متشابكاً مع الحقيقة والإصلاح الأخلاقي. يحتاج الفلسطينيون إلى تضامن مستنير وشجاع ومرتكز على الأخلاق. ويطالبون العالم برفض لغة الحياد، والتحدث بوضوح عن الإبادة الجماعية والاستعمار الاستيطاني، وتفكيك الأنظمة التي تمكنهم.

غزة يمكن أن تشفى، ولكن ليس بنفس الأيدي التي جرحتها. لا يمكن شفاء غزة إلا من خلال أولئك الذين يتعاملون ليس مع معاناتها فحسب، بل مع حقيقتها.

إن العلاج يتطلب استعادة الإنسانية ذاتها ـ وهي صحوة عالمية تدرك أن أي حزمة مساعدات لا يمكن أن تحل محل المساءلة. وسط أنقاض غزة، فإن السؤال ليس ما إذا كانت الأراضي الفلسطينية قادرة على التعافي؛ بل هو ما إذا كان العالم يستطيع استعادة بصره الأخلاقي.

الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لموقع ميدل إيست آي.

شاركها.