لقد كان الاستهداف المتعمد للمستشفيات في غزة بمثابة اتجاه سادي يسلط الضوء على تطبيع جرائم الحرب في نظام دولي لا يبالي بشكل متزايد بمعاناة الفلسطينيين.
منذ الغارة العسكرية الإسرائيلية على المستشفى الأهلي العربي في 17 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، والتي أسفرت عن خسارة فورية لأكثر من 500 مريض فلسطيني ومهني طبي، تزايدت حدة الاستهداف المتعمد والمنهجي لنظام الرعاية الصحية في غزة، مما يعكس نمطًا أوسع من الاعتداءات. تهدف إلى شل البنية التحتية الطبية والموظفين.
وفي الآونة الأخيرة، تعرض مستشفى كمال عدوان في بلدة بيت لاهيا، وهو آخر وحدة للعناية المركزة العاملة في شمال غزة، للقصف، مما أدى إلى اشتعال النيران فيه وخروجه عن الخدمة. وتم إجلاء المرضى الفلسطينيين الموجودين على أجهزة التنفس الصناعي قبل لحظات من اجتياح النيران التي تسببت بها إسرائيل إلى وحدة العناية المركزة. ووفقاً لمدير المستشفى، الدكتور حسام أبو صفية، فقد شمل الهجوم إطلاق نار مفاجئ ومكثف، حيث تعمدت القوات الإسرائيلية استهداف وحدة العناية المركزة.
وقال أبو صفية: “تم إطلاق نار مفاجئ ومجنون على المستشفى بكافة أنواع الأسلحة، والاحتلال يتعمد استهداف غرفة العناية المركزة بإطلاق النار عليها بشكل واضح”، لافتا إلى أنه تم إطفاء الحرائق باستخدام البطانيات فقط ومياه الشرب المحدودة. غادر في المستشفى.
وحدة العناية المركزة، وهي الوحدة الوحيدة في شمال غزة، أصبحت الآن خارج الخدمة تمامًا.
كما سرق العنف الإسرائيلي حياة الدكتور سعيد جودة، آخر جراح العظام المتبقي في المنطقة. وعلى الرغم من إصابته بجروح، واصل الدكتور جودة التنقل بين مستشفيي كمال عدوان والعودة لعلاج الجرحى. ومن المأساوي أن غارة جوية إسرائيلية بطائرة بدون طيار استهدفته وقتلته. وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، فإن استشهاده يرفع إجمالي عدد الشهداء من العاملين في مجال الرعاية الصحية إلى 1057 منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة. كما أفادت الوزارة عن حصيلة مدمرة بلغت 45 ألف شهيد وأكثر من 106 آلاف جريح منذ أكتوبر من العام الماضي.
رأي: لماذا يصمت العالم عن سجن إسرائيل لأصغر أطفالها الفلسطينيين حتى الآن؟
قبل أن يتم إسقاط القنابل على المستشفيات أو المنازل، هناك عملية تجريد من الإنسانية ترسي الأساس، وتصور الفلسطينيين على أنهم لا يستحقون الكرامة أو الحماية. هذه العملية تجعل من السهل تجاهل معاناتهم، حيث يتم تقليلهم إلى مجرد أرقام أو اعتبارهم “أضرارا جانبية” أو “دروعا بشرية”، مما يجردهم من فرديتهم. ويصبح الأطفال “قاصرين”، ويشار إلى المدنيين المقتولين على أنهم “ماتوا”، وتوصف المجازر بأنها “مشاهد فوضوية”. إن هذا التآكل المتعمد للإنسانية، والذي يديمه التأطير الإعلامي واللغة الانتقائية، يعمل على تخدير النفس العالمية، وتخديرها أمام الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمر.
إن التقارير الخاطئة المنهجية التي تقدمها وسائل الإعلام تعزز إخفاء معاناة الفلسطينيين بينما تعمل على تضخيم الروايات الإسرائيلية وإضفاء الشرعية على الفظائع تحت ستار “الدفاع” أو “العمليات العسكرية”.
وفي غزة، حيث تم تسجيل أكبر عدد من مبتوري الأطراف من الأطفال، وصل حجم الدمار إلى أبعاد لا يمكن تصورها. كل مأساة جديدة، طفل يفقد أطرافه، وآخر يموت في غارة جوية، تصبح جزءًا من قائمة الفظائع المتزايدة باستمرار. وما كان لا يمكن تصوره ذات يوم أصبح الآن يُنظر إليه على أنه روتين، مع تضاؤل غضب المجتمع الدولي مع مرور كل يوم.
قصف إسرائيل للمستشفى الأهلي العربي صدم العالم، وحظي للحظة إدانة عالمية وحديث عن المحاسبة. ومع ذلك، وبعد أقل من عام، تعرضت العشرات من المستشفيات الأخرى وملاجئ الأمم المتحدة والجامعات للقصف. يعاني مستشفى كمال عدوان، الذي يعاني بالفعل من نقص المياه بعد الهجمات الإسرائيلية على خزانات المياه، من القصف المستمر وحتى الهجمات من انفجار الروبوتات والحريق في وحدة العناية المركزة، مما أجبر على إجلاء المرضى بينما يكافح المستشفى لمواصلة عمله.
ووصف الدكتور أبو صفية المشهد بأنه “كارثي وخطير”. ودعا إلى التدخل العالمي، مشيراً إلى أن نظام الرعاية الصحية في غزة ظل يطالب بالحماية منذ أشهر دون أي استجابة. ويواجه المستشفى هجمات يومية، بما في ذلك الغارات على المولدات الكهربائية وخزانات المياه وشبكة الأكسجين، مما يتركه في حالة محفوفة بالمخاطر وغير قادر على خدمة العدد المتزايد من الجرحى الذين يصلون كل يوم.
اقرأ: نتنياهو يغيب عن حفل تحرير أوشفيتز خوفا من الاعتقال
وتشكل هذه الهجمات على المرافق الطبية انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الذي يحمي المستشفيات والعاملين الطبيين بموجب اتفاقيات جنيف. ومع ذلك، فقد مرت جرائم الحرب هذه دون عقاب. وتستمر إسرائيل في تبرير أفعالها تحت شعار “الدفاع عن النفس”، في حين يظل المجتمع الدولي، وخاصة القوى الغربية، متواطئاً من خلال التقاعس عن العمل.
إن تصرفات إسرائيل محمية بسردية استثنائية تمنح الدولة حصانة من المساءلة. وفي حين أنها تطالب باعتراف عالمي بـ “حقها في الدفاع عن النفس”، فإنها في الوقت نفسه تحرم الفلسطينيين من حقهم في جسد وبيت وحياة. وتمتد هذه الازدواجية إلى آليات التحقيق الذاتي، التي تعفي الجيش باستمرار من مزاعم ارتكاب مخالفات.
وفي الوقت نفسه، فإن الرد الدولي على المقاومة الفلسطينية، سواء كان عنيفاً أو غير عنيف، أصبح مفتقداً للشرعية. تُوصف عمليات المقاطعة بأنها مسيئة؛ يتم تشويه الاحتجاجات السلمية. وحتى المناشدات المطالبة بالإجلاء الطبي للأطفال المصابين، مثل أحمد، الطفل المبتور الأطراف البالغ من العمر أربع سنوات والذي يتلقى الآن الرعاية في إيطاليا بعد منعه من دخول المملكة المتحدة، يتم رفضها.
إن الهجوم المتواصل على نظام الرعاية الصحية في غزة ليس مجرد أزمة فلسطينية، بل هو أزمة عالمية. إن استهداف المستشفيات والمدنيين يشكل قطيعة مع القانون الدولي، وانهيارا للمبادئ التي يقوم عليها أي مظهر من مظاهر النظام العالمي. وبما أن مثل هذه الانتهاكات لم يتم الرد عليها، فقد شكلت سابقة للإفلات من العقاب، مما أدى إلى تآكل أساس حقوق الإنسان والعدالة.
إن تكلفة التجريد من الإنسانية لا يتحملها الضحايا وحدهم. وبينما يتحمل الفلسطينيون ما لا يمكن تصوره – دفن أطفالهم، وفقدان منازلهم، والبقاء على قيد الحياة تحت الحصار الدائم – فإن أولئك الذين ينخرطون في التجريد من إنسانيتهم أو يسمحون بها يعانون من التآكل البطيء لإنسانيتهم.
وبينما تحترق مستشفيات غزة ويمسك أطفالها بدمىهم تحت الأنقاض، يرتفع صوت صمت العالم. ويحظى مرتكبو جرائم الإبادة الجماعية مثل بنيامين نتنياهو بتصفيق حار من البرلمانات الغربية، في حين تتصاعد جرائم الحرب دون رادع. فكل يوم يمر يضيق نافذة المساءلة، ومعه الفرصة لاستعادة بوصلة أخلاقية تعترف بأن حياة كل إنسان مقدسة.
إن تطبيع الهجمات الإسرائيلية على المستشفيات في غزة يجب أن ينتهي. ولا يمكن للمجتمع العالمي أن يتجاهل ذلك.
إقرأ أيضاً: إسرائيل: جنود يعترفون بقتل مدنيين في غزة ويصنفونهم بـ”الإرهابيين”
الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.