إن المسار الانتقالي في سوريا الجديدة طويل وشائك ويتطلب الإصرار والصبر. هذا النظام يخنق السوريين منذ أكثر من خمسين عاماً، ارتكب خلالها أفظع الجرائم، من اعتقال وتعذيب وقتل عشرات الآلاف، وتدمير مدن، وتهجير سكانها، وتحويل حاكمه إلى إله، والتلاعب بالقضايا العادلة. للحفاظ على وجودها وتحقيق أجنداتها.
تمر الثورة السورية بمرحلة صعبة ومؤلمة، مصحوبة بتضحيات كبيرة، من شأنها أن تعزز إرادة الشعب في بناء مؤسسات الدولة الناجحة، ومحو إرث النظام المخلوع. ومن لا يعرف شيئاً عن معاناة الشعب السوري يظن أنه سيكون متسامحاً ومتسامحاً، لكن على العكس من ذلك، فإن ذلك سيجعله حريصاً على تحقيق العدالة على كافة المستويات وبناء نظام عدالة حقيقي.
هذه ثورة، وليست حزب انتخابات استولت فيه السلطة بالحديد والنار، وقدمت من أجله التضحيات الجسام. إنها نقطة تحول تاريخية للشعب السوري الذي يتجه نحو تغيير شامل في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لبناء دولته المنشودة باعتماد نظام محاسبة صارم، بعيداً عن الانتقام أو الغضب أو التردد أو الانفعالات.
رأي: وبعد فلسطين ولبنان، تمتد إسرائيل انتهاكاتها للقانون الدولي إلى سوريا
ومن إجراءات الثوار التي أذهلتنا إبقاء وزراء النظام المخلوع في مناصبهم بضعة أيام لإدارة شؤون المؤسسات ومنع انهيارها. لقد فهم البعض هذا القرار بشكل خاطئ على أنه تسامح مع جرائم الماضي، لكن الحقيقة عكس ذلك. هؤلاء الأشخاص، وعلى رأسهم رئيس الوزراء، سيخضعون للتحقيق والاستجواب والمحاسبة في أي وقت. وهم ليسوا أبرياء تماما، إذ قد يكون بعضهم متورطا في جرائم أو لديه أدلة على ارتكاب آخرين لجرائم قد تكون مفيدة في ملاحقتهم ومحاسبتهم.
ويجب إخضاع كل من خدموا النظام المخلوع لعقود من الزمن لتحقيق معمق لمنع تغلغلهم في مؤسسات الدولة الجديدة تحت أي ظرف من الظروف، ومحاسبتهم على ما ارتكبوه بحق وطنهم ومواطنيهم. ولا يمكنهم ادعاء تنفيذ الأوامر من أعلى المستويات، لأن شرعية الأمر لا تستمد من مصدرها بل من طبيعة موضوع الأمر. إذا كانت مطابقة للقانون فهي مشروعة، وإذا كانت مخالفة للقانون فإن من نفذ الأوامر يكون مسؤولاً عن تنفيذها.
إن اجتثاث نظام الأسد من جذوره يعني التخلص من كافة الواجهات السياسية التي تمثله من أحزاب وأندية وجمعيات ومؤسسات، والتي يجب حلها ومصادرتها جميعها في أسرع وقت ممكن.
فالديمقراطيات المعمرة التي تشكلت إثر حروب وثورات حلت الأحزاب الحاكمة وصادرت ممتلكاتها ومنعت شخصياتها من المشاركة في الحياة السياسية وأحالتهم إلى محاكمات استثنائية كما حدث مع الحزب النازي. كذلك لا بد أن يكون مصير حزب البعث والأحزاب السياسية الرسمية التي استخدمها النظام لتجميل صورته القبيحة هو نفسه.
إن إعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية التي سرعان ما انهارت مع هروب قادتها وعناصرها أمر ملح. الشعب السوري لا يحتاج إلى عدد كبير من الأجهزة الأمنية والعسكرية ليتقاتل فيما بينه. إنهم بحاجة إلى جهاز أمني يدير شؤونهم ويضمن أمنهم وسلامتهم، ومؤسسة عسكرية تضمن حمايتهم من أي تهديدات خارجية.
الاهتمامات الداخلية ليست أكثر أهمية من الاهتمامات الخارجية، حيث إن حضور الثورة السورية وتمثيلها في المحافل الدولية له أهمية كبيرة في هذه المرحلة، الأمر الذي يتطلب مواجهة العديد من القوى التي تحاول فرض وصايتها على الشعب السوري، سواء من خلال السياسة أو القوة، كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل حاليا.
ويجب التأكيد على أن القرارات الأممية الصادرة ضد النظام السابق يجب ألا يكون لها أي تأثير على الدولة السورية والسوريين. وإذا كانت الأمم المتحدة جادة في ملاحقة رموز النظام الهاربة، فعليها أن تعمل على اعتقالهم، والعمل على استعادة ثروات الشعب السوري المنهوبة، سواء المسروقة أو المصادرة بسبب العقوبات المفروضة.
رأي: سوف تتطلب التطورات في سوريا أكثر من مجرد إسقاط الأسد
يمكن أن تساعد الآليات الدولية المختلفة في تحقيق العدالة طويلة الأمد للسوريين، وقد تم اقتراح المحكمة الجنائية الدولية كخيار لإجراء التحقيقات اللازمة والملاحقة والمحاسبة، لكن هذا الخيار غير ممكن بسبب الإجراءات المطلوبة للانضمام والتحديد. الإطار الزمني للاختصاص القضائي، وهو ما يتطلب دراسة معمقة، بالإضافة إلى بطء المحكمة وعدم قدرتها على التحقيق في العدد الهائل من الجرائم المرتكبة منذ دخول نظام روما الأساسي حيز التنفيذ في عام 2002.
ولذلك فإن العمل على إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة لمحاكمة مختلف الجرائم التي ارتكبها النظام المخلوع يبدو خيارا أفضل، حتى لو استغرق الأمر وقتا طويلا.
مسار العدالة الدولية مهم، لكن إقراره وتنظيمه والبدء بالعمل به يستغرق وقتا طويلا. ولذلك، يجب أن يكون للقضاء الوطني الدور الرائد في ملاحقة الجرائم قدر الإمكان، سواء بحضور مرتكبيها أو غيابياً. كما يجب مطالبة المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول) بشكل عاجل بإصدار نشرات حمراء بحق الهاربين، وعلى رأسهم الجزار بشار الأسد.
ويجب على السلطات الجديدة في دمشق التواصل مع الأمين العام للأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختلفة لتوضيح الواقع الجديد في سوريا وتوضيح أنها تمثل الشعب السوري ومصالحه. وعليهم البدء بإعلان مواقفهم الدولية، وخاصة ضرورة التعاون في كشف وتوثيق الجرائم التي يرتكبها النظام البائد ومحاكمة شخصياته، ورفض الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية.
ومن المهم أيضًا التأكيد على وحدة الأراضي السورية وإنهاء سيطرة المجموعات المسلحة المعروفة على أجزاء من جغرافية البلاد بحجة حماية مصالح الأقلية. ليس هذا فحسب، بل من الأهمية بمكان أيضاً الإصرار على إخراج القوات الأجنبية، وأبرزها الولايات المتحدة الأمريكية، التي نهبت ثروات البلاد لعقود من الزمن.
لقد استاءت مختلف الأنظمة الحاكمة في النظام العربي مما حدث في دمشق، وتخوفت من الوضع الحالي في سوريا. وصدرت تصريحات خجولة هنا وهناك، دون تحرك جدي واحد لمد يد العون للشعب السوري في هذه المرحلة الحساسة، أقلها الاستجابة للنداءات المتكررة للمساعدة في كشف والعثور على السجون السرية والمقابر الجماعية. فتخيل ماذا سيكون الرد على طلب المساعدة في إعادة الإعمار وتوفير التكنولوجيا الحديثة للمرافق العامة لتبدأ العمل مرة أخرى.
ولا يمكن الاعتماد على الأنظمة العربية الرسمية في أي شيء، فهي تراقب المجازر التي يرتكبها النظام وحلفاؤه منذ ثلاثة عشر عاماً دون أن تفعل شيئاً. وحتى الملايين الذين شردوا من ديارهم لم يكونوا موضع ترحيب في أي مكان.
وبعض هذه الأنظمة التي اضطرت لاستقبال اللاجئين السوريين، قامت بوضعهم في مخيمات في الصحاري القاحلة، حيث تلقوا معاملة فظيعة، مما اضطرهم إلى الهروب عبر البحار في رحلات هجرة جماعية خطيرة إلى أوروبا.
وكل ما يريده السوريون هو أن تكف هذه الأنظمة شرها وخداعها. إن تكرار ما حدث في مصر واليمن وتونس والسودان لن يجدي نفعا، فالشعوب التي تعاني في ظل الديكتاتوريات الحالية ستتعامل مع طغاتها، وقريبا ستوحد إرادتها وتقول كلمتها. إن كل الأعمال الشنيعة التي يرتكبها هؤلاء الطغاة في دول الجوار سترتد عليهم عاجلا أم آجلا.
أما الغرب وحلفاؤه الذين أنشأوا داعش وصدروا المتطرفين والتكفيريين إلى سوريا لشيطنة الثورة السورية وتبرير السيطرة على مقدراتها وثرواتها ونهبها، فهم الذين تركوا إيران وميليشياتها الطائفية والروس لنشر الفساد، الدمار والتشريد والقتل في صفوف الشعب السوري؛ وعليهم أن يعودوا إلى رشدهم ويمدوا أيديهم للدولة السورية الجديدة باعتبارها دولة مساوية لهم. كفى من التظاهر بمحاربة الإرهاب. إن إبقاء قسم كبير من الثورة السورية على قوائم الإرهاب لعرقلة المسار الانتقالي الذي تمر به سوريا هي لعبة سخيفة.
إن كل ما مر به الشعب السوري من مصائب ومعاناة ستبقى حية في ذاكرته، بينما يرسم مرحلة انتقالية لبناء دولته المستقبلية، وتحقيق الحرية والعدالة والمساواة التي طال انتظارها على مدى عقود. لا شك أن الشعب السوري، بكافة فصائله، يملك إرادة قوية ورؤية حادة لتحقيق ما يصبو إليه.
رأي: ما هي التحديات التي تلوح في أفق سوريا الجديدة؟
الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.