رغم الهتاف المصري الرسمي لصفقة رأس الحكمة مع الإمارات، إلا أن الأسئلة تظل قائمة، رغم أن مصر تعول عليها للخروج من أزمتها الاقتصادية الخانقة. تم إبرام الصفقة قبل أيام قليلة، وتحظى باهتمام كبير. ويُنظر إليه على أنه طوق النجاة الذي يمكن أن يوقف الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار في السوق السوداء، والذي كان قد تجاوز 70 جنيهًا مصريًا. وانخفض السعر الآن إلى أقل من 50 جنيها، مقارنة بـ 30.9 جنيها في السوق الرسمية.
وبحسب تصريحات رسمية، فقد تلقت الحكومة المصرية بالفعل 10 مليارات دولار كجزء من الصفقة، وهي في الأساس حزمة إنقاذ خليجية لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي. النظام مثقل بديون ضخمة، وجدول استحقاق للأقساط وفوائد الدين يبلغ نحو 42.3 مليار دولار خلال 2024، بحسب البنك المركزي المصري.
ما يجعل الصفقة المثيرة للجدل أكثر إثارة للريبة هو التناقضات المتعلقة بقيمتها الفعلية، والتي تقدر بنحو 35 مليار دولار.
وبموجب هذه الصفقة، حصلت شركة أبوظبي التنموية القابضة (ADQ) على حقوق تطوير مشروع كبير في شبه جزيرة رأس الحكمة على ساحل البحر الأبيض المتوسط في مصر غرب الإسكندرية. وسيقوم المشروع بتطوير مرافق سكنية وتجارية وترفيهية وسياحية ومساحة استثمارية تبلغ مساحتها 170.8 مليون متر مربع.
وتبلغ القيمة الحقيقية للصفقة 24 مليار دولار فقط، وهي قيمة الأرض المخصصة للمشروع، بالإضافة إلى 35 في المائة من الأرباح. أما المبلغ المتبقي البالغ 11 مليار دولار فهو قيمة الودائع الإماراتية المحتفظ بها لدى البنك المركزي المصري. ولن تضطر مصر إلى رد هذا المبلغ بالدولار؛ الإمارات ستدفع بالجنيه المصري.
أما المسألة الثانية فتتعلق بسعر المتر المربع في واحدة من أجمل المواقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ويعادل حوالي 4300 جنيه مصري للمتر المربع (140 دولارًا)، وهو مبلغ زهيد وغير معقول في منطقة سياحية ساحرة ووجهة استثمارية رفيعة المستوى.
رأي: تداعيات دعم الإمارات بالمليارات للنظام المصري
علاوة على ذلك، فإن العقد الذي أعلنه رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي لم يوضح طبيعة أو طريقة أو موعد حصول الحكومة المصرية على 35 في المائة من أرباح المشروع الذي من المتوقع أن يبدأ مع بداية عام 2025. كما أنه ليس واضحا وما إذا كانت تلك الأرباح ستكون دفعات لمرة واحدة أم سنوية، وكيف سيتم التحقق من حسابات الشركة ومستويات الأرباح.
خبير اقتصادي ورئيس مجلس إدارة سابق الاهرام وكتبت صحيفة أحمد السيد النجار تحت عنوان “رأس الحكمة: بداية مسلسل بيع أرض الوطن” أن هذا النوع من الصفقات هو خدعة من حكومة غير كفؤة تبني استراتيجيتها الاقتصادية عليها بيع أصول الدولة. وفق العروبة 22 على الإنترنت، قارن الصفقة بعقد امتياز قناة السويس في القرن التاسع عشر.
ويتساءل الخبراء عن جدوى وأولوية الاستثمار السياحي والعقاري مقارنة بنظيريهما الزراعي والصناعي. ومصر مشبعة بالفعل بمشروعات عقارية ضخمة ومنتجعات سياحية تضم نحو مليوني مبنى متعدد الشقق، وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وهناك عاصمة إدارية جديدة شرق القاهرة ما زالت غير جاهزة، وهناك مدينة العلمين الجديدة في الشمال، ناهيك عن تراجع عائدات السياحة بسبب التوتر في غزة والبحر الأحمر، و حقيقة أن مصر استقبلت أقل من 14.9 مليون زائر في عام 2023.
الأمر الأكثر إثارة للجدل هو توقيع السيسي على قرار نشر في الجريدة الرسميةرقم 55 لسنة 2024 والتي نصت في المادة الأولى على: “”تخصيص قطعة أرض من أملاك الدولة الخاصة بمساحة (170,800,000) متر مربع بمنطقة محافظة مطروح حسب اللوحة المرفقة وجدول الإحداثيات للمصلحة” التابعة لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، لاستخدامها في إنشاء مدينة رأس الحكمة الجديدة، ونقلها من الأراضي المملوكة للقوات المسلحة. وهذا يعني أن الأرض المباعة كانت مملوكة للجيش المصري، على الرغم من أنه ليس من الواضح كيف تم تخصيصها للجيش في المقام الأول.
رأي: مستقبل الإخوان المسلمين في مصر بعد قمة السيسي وأردوغان
هناك الكثير من الأسئلة حول هذه الصفقة. هل تتقاضى المؤسسة العسكرية المصرية ثمن الأرض ومن الأرباح؟ أم أن كل شيء سيذهب إلى خزينة الدولة؟ وعلى نطاق أوسع، ما هو حجم وقيمة الأراضي التي يملكها الجيش؟ هذه أسئلة تم التفكير فيها ولم تطرح في مصر فيما يتعلق بإمبراطورية الجيش الاقتصادية وعدد شركاته وحجم محفظته المالية.
وسبق أن قدر السيسي حجم مشاركة القوات المسلحة في الاقتصاد المصري بما يتراوح بين 1.5 إلى 2 بالمئة. لكن تقديرات غير رسمية تؤكد توسع حصتها لتتجاوز 60 في المائة، منذ الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013. ومنذ ذلك الحين، أصبحت القوات المسلحة تشارك في إنتاج الحديد والأسمنت، وحليب الأطفال، والأدوية، والوجبات المدرسية. وكذلك بيع اللحوم والمواد الغذائية والأجهزة الكهربائية وإقامة الفنادق والنوادي ومحطات الوقود.
وبحسب التقديرات الصادرة عن البنك الدولي، هناك 60 شركة تابعة للجيش تعمل في 19 صناعة، من إجمالي 24 شركة مدرجة في جدول تصنيف الصناعة.
ويخشى الشعب المصري أن تكون الصفقة ثمناً مدفوعاً مقابل الترتيبات الجارية بشأن قطاع غزة، وقضية التهجير الفلسطيني، والمماطلة في فتح معبر رفح بشكل دائم. كما أنهم قلقون من أن يكون البيع وسيلة لنقل الملكية إلى طرف ثالث، إلى إسرائيل على سبيل المثال، خاصة في ظل غياب الشفافية فيما يتعلق بضمانات بيع ملكية مشروع رأس الحكمة والأصول المصرية الأخرى لأطراف أخرى. لن يتم نقلها أو بيعها لأطراف ثالثة.
وتمتد الشكوك، بحسب المعارضين، إلى احتمال أن يكون المشروع غطاء لقاعدة بحرية إماراتية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، على اعتبار أن خطط المشروع تتضمن بناء ميناءين بحريين ومطار دولي. وهو ما دفع رئيس الوزراء المصري إلى نفي وجود أي بند في العقد يمس السيادة المصرية.
لكن الكاتب المصري الذي يعيش في الخارج، جمال سلطان، تساءل على فيسبوك لماذا لا تنشر الحكومة العقد ليراه الناس، بدلا من الاضطرار إلى البقاء في وضع الدفاع، وينفي كل الاتهامات المتعلقة بمضمونه. وتساءل عن الجرائم المحتملة التي يمكن العثور عليها في العقد والتي لا تريد الحكومة أن يراها الناس.
اقرأ: وزير إسرائيلي يتهم الولايات المتحدة بـ”دق إسفين” بين الإسرائيليين
ومما يعزز موقف المعارضة المتشكك في أهداف المشروع وجدواه عدم عرضه على مجلسي النواب والشيوخ في البرلمان المصري. بالإضافة إلى ذلك، لم يتم الإعلان عن الجدول الزمني لتنفيذه، ولا العقوبات في حالة انتهاك الإمارات لشروطه، ناهيك عن عدم الحصول على موافقة سكان المنطقة البالغ عددهم 25 ألف نسمة، والذين لم يحصلوا على تعويضات مالية.
وتتكتم الحكومة المصرية بشأن شروط العقد. ولا يزال الإطار القانوني لملكية الأرض غير واضح، أو ما إذا كانت ملكية دائمة أم ملكية بنظام حق الانتفاع. كما أن السعر العادل للمتر الواحد في تلك المنطقة غير معروف، ولا مبلغ التعويض للسكان الذين يرفضون الانتقال.
ولا شك أن وجود الإمارات كطرف ثان في العقد أصبح مصدر قلق كبير لدى المصريين، خاصة مع تسارع وتيرة استحواذ أبوظبي على أصول مصرية حساسة في عدة قطاعات حيوية، ليس أقلها الشحن، النقل البحري والخدمات اللوجستية.
ووقع تحالف موانئ أبوظبي (المنافس الإقليمي لشركة قناة السويس) في وقت سابق اتفاقيات لتنفيذ مشاريع تشمل إدارة وتشغيل الأرصفة ومحطات السفن في موانئ شرم الشيخ والغردقة والسخنة وسفاجا. ومع إضافة رأس الحكمة إلى قائمة الموانئ الخاضعة للسيطرة الإماراتية، ستربط أبو ظبي موانئ البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، مما يشدد سيطرتها على الموانئ المصرية من جهة، ويخرج قناة السويس من المنافسة مع الإمارات. المنافذ من جهة أخرى.
واستحوذت الإمارات خلال السنوات القليلة الماضية على خمسة بنوك في مصر، هي أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية، وشركة مصر لإنتاج الأسمدة “موبكو” (أهم شركتين في قطاع الأسمدة)، بالإضافة إلى شركة الإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع. بالإضافة إلى ذلك، استحوذت على حصة في شركة فوري للمدفوعات الإلكترونية، والعديد من الفنادق والمستشفيات الكبرى، واثنتين من أكبر سلاسل المعامل، وهما البرج والمختبر.
وتحدث معي خبير اقتصادي مصري، شريطة عدم الكشف عن هويته، ورجح أنه من المحتمل أن يكون مشروع رأس الحكمة قد تم التخطيط له لمنافسة مشروع نيوم السعودي على البحر الأحمر. أو قد تكون محاولة لعرقلة التقارب بين مصر وتركيا. واستند في ذلك إلى أن المشروع تمت ترسيته مباشرة على جهة إماراتية، دون طرح مناقصة عالمية.
والإطار الزمني المعلن لتلقي مصر 24 مليار دولار هو شهرين، أي قبل حوالي عام من بدء المشروع. وهذا يخلق شهية لدى البعض للادعاء بأن الصفقة سياسية وليست اقتصادية، وأن الشيطان يكمن في التفاصيل، وأن الإمارات لها أهداف أخرى من وراء شراء رأس الحكمة.
اقرأ: وزير الحوثي: السفن التي تدخل المياه اليمنية يجب أن تحصل على تصريح
الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.