بعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة، برز واقع جديد معقد على الأرض فيما يتعلق بالحكم في القطاع. بداية، تتسم الخطة الأميركية الأخيرة لغزة بالغموض وغياب أي بنود واضحة. وبالتالي، فإن التحدي السياسي والأمني الأكثر خطورة هو الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأطر المختلفة لإسرائيل والولايات المتحدة والمجتمع الدولي فيما يتعلق بالحكم في مرحلة ما بعد الحرب ومستقبل غزة.
إن النظرة الإستراتيجية لإسرائيل هي الإحتفاظ بالسيطرة الأمنية على غزة والسيطرة على معابرها الحدودية. وفي المقابل فإن التوجه الذي تتبناه الولايات المتحدة يدعو إلى انسحاب إسرائيلي تدريجي تحت إشراف دولي مؤقت، إلى أن تتمكن السلطة الفلسطينية من تولي المسؤولية. وعلى الأرض، تشير التطورات إلى أن حماس استعادت السيطرة على مناطق معينة بعد الانسحاب الإسرائيلي الجزئي، رغم أن ذلك يشير إلى استعدادها للتخلي عن السلطة الإدارية، مع احتفاظها بقدراتها العسكرية في مناطق معينة في غزة.
والسؤال الرئيسي هنا هو إلى أي مدى يمكن جسر الفجوة بين الحقائق على الأرض، وأهداف إسرائيل المعلنة، والتوقعات الدولية.
وفي أعقاب الموافقة على خطة ترامب الأخيرة للسلام وتنفيذ مرحلتها الأولى، والتي تضمنت انسحابًا جزئيًا للقوات الإسرائيلية وتبادل الأسرى، أكد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن وقف إطلاق النار لا يعني نهاية الصراع، متعهدًا بتفكيك قدرات حماس العسكرية بالكامل. كما ألمح نتنياهو إلى أن الاتفاق لا يقيد عمليات إسرائيل في غزة بشكل كامل، مؤكدا حقها في استئناف العمليات العسكرية إذا لم تف حماس بالتزاماتها. كما أعلنت التصريحات الرسمية الإسرائيلية عزمها تدمير كافة الأنفاق في غزة بالقوة، مطالبة بضمانات أمنية مشددة لمنع أي تسليح مستقبلي في غزة. وتتصور الحكومة الإسرائيلية نزع سلاح حماس بالكامل، واستبعادها بالكامل من إدارة القطاع، وترفض أي نقل للسلطة إلى السلطة الفلسطينية أيضا.
ورغم أن حماس نفذت المرحلة الأولية من الاتفاق بإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء، إلا أن إسرائيل انتهكت فعلياً وقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه قبل أيام قليلة، بعد نجاح عملية تبادل الأسرى. وتذرعت إسرائيل بذريعة فشل حماس في إعادة جميع جثث الأسرى الإسرائيليين، وهو الأمر الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه غير واقعي نظراً لضيق الوقت والدمار الهائل الذي لحق بغزة. كما قامت إسرائيل بتقييد تدفق المساعدات الإنسانية في الأيام اللاحقة، وأبلغت الأمم المتحدة بأن حجم شاحنات المساعدات المسموح بها سيتم تخفيضه. وهذا الواقع الحالي على الأرض سيزيد من تعقيد الجهود المبذولة للمضي قدمًا في المرحلة الثانية من خطة ترامب للسلام.
فقد دمرت البنية التحتية في غزة بشكل شبه كامل، ولا يزال تسليم المساعدات محدوداً من قبل إسرائيل، التي تواصل سيطرتها على حدود القطاع ومعابره، بما في ذلك معبر رفح مع مصر. وفي ظل تحديات لوجستية وإنسانية كبيرة، استعادت حماس السيطرة الأمنية في المناطق التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية، وشنت عمليات لاستعادة النظام الداخلي في أعقاب النزاع. وتترك الخطة دون حل مسألة من سيمارس السلطة التنفيذية والأمنية في غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي التدريجي. وينص الاتفاق على انسحاب القوات الإسرائيلية جزئيا إلى الخطوط المتفق عليها، وألا يكون لحماس أي دور في حكم غزة بعد الحرب.
وشدد إعلان نيويورك الصادر في أيلول/سبتمبر على أن إدارة غزة ينبغي أن تُعطى في نهاية المطاف للفلسطينيين بعد وقف الأعمال العدائية، بشرط إصلاح السلطة الفلسطينية. كما أشار البيان إلى نزع سلاح حماس، لكنه فشل في تحديد آلية تنفيذية للتنفيذ.
واقترحت خطة ترامب للسلام، التي تضمنت عشرين نقطة، إنشاء إدارة انتقالية تحت إشراف دولي مؤقت من الدول والمؤسسات المانحة، بمشاركة فلسطينية محدودة لحين إجراء إصلاح مؤسسي داخل السلطة الفلسطينية. ومن شأن هذا الهيكل أن يضع السلطة الفلسطينية كشريك منسق في انتظار استعادة سيطرتها تدريجيا. بالإضافة إلى ذلك، اقترحت الخطة الأمريكية إنشاء قوة دولية أو متعددة الجنسيات مكلفة بتأمين البنية التحتية العامة، وتدريب وحدات الشرطة الفلسطينية الجديدة، والإشراف على عملية نزع السلاح.
يواجه تنفيذ المرحلة الثانية من مبادرة ترامب للسلام عقبات كبيرة بسبب تضارب الرؤى بين مختلف الأطراف بشأن حل أزمة غزة.
ويبدو أن إسرائيل غير راغبة في تولي مسؤولية الحكم المباشر في غزة، ولكنها ترفض أيضاً السماح بنشوء فراغ سياسي يمكن أن تشغله حماس أو السلطة الفلسطينية. وهذا النهج يقيد بشكل فعال جدوى أي هيكل حكم انتقالي أو دائم، حيث أن مثل هذه الترتيبات ستظل خاضعة للرقابة الإسرائيلية المستمرة.
ورغم أن أطراً دولية مختلفة تتصور استعادة دور السلطة الفلسطينية تدريجياً في غزة، إلا أن هذه المفاهيم تواجه الواقع الذي انكشفت خلال الحرب. يتم تحديد هذا الواقع المحلي المعقد من خلال شبكات فصائلية وعائلية متشابكة تدير المنطقة وتقاوم السلطة الخارجية الغريبة عن النسيج الاجتماعي المتجذر في غزة. فضلاً عن ذلك فقد فقد سكان غزة أيضاً ثقتهم في الضمانات الدولية، التي فشلت في إعادة الإعمار، وتحقيق العدالة للفلسطينيين، أو محاسبة إسرائيل. ولذلك، هناك قلق متزايد من أن أي وجود انتقالي دولي يمكن أن يرقى إلى شكل من أشكال “الاحتلال الناعم”.
اقرأ: الأونروا: كل تأخير في إيصال المساعدات لغزة يعني المزيد من الوفيات
إن الإجراءات الإسرائيلية الحالية، التي تنتهك شروط الهدنة، تمهد الطريق فعلياً لاستمرار الصراع، إما من خلال المواجهة العسكرية المباشرة أو عبر وسائل غير مباشرة يعترف بها الآن الجمهور الفلسطيني على نطاق واسع. ويعكس التوجه الذي تتبناه إسرائيل عزمها على الاحتفاظ بالسيطرة بعد عملية تبادل الأسرى، وملاحقة أهدافها الاحتلالية الأوسع، وهي النتيجة غير الواقعية وغير المقبولة، وخاصة في أعقاب تعهد زعماء العالم في شرم الشيخ بضمان إنهاء الحرب. وفي الوقت نفسه، فإن الرؤية الدولية لا ترقى إلى مستوى الواقعية السياسية التي تمليها الديناميكيات الميدانية في غزة، وطبيعة الشعب الفلسطيني، ومناورات إسرائيل العلنية والسرية.
وقد تكون هناك حاجة الآن إلى وجود دولي مؤقت في غزة قبل إنشاء إدارة مدنية، لضمان وقف حقيقي للأعمال العدائية وردع إسرائيل عن مواصلة اعتداءاتها وانتهاكاتها لوقف إطلاق النار، والتي تحدث بالفعل.
وفي مرحلة لاحقة، بعد ردع إسرائيل عن العودة إلى الحرب، قد يكون من المفيد إنشاء هيكل حكم انتقالي في غزة يكون في الأساس فلسطينياً ويتم تشكيله من خلال الإجماع الداخلي بين الفصائل الفلسطينية. وستعمل مثل هذه الإدارة من خلال مشاركة دولية وعربية منسقة، مع إشراف فني من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى جانب إشراف سياسي وأمني من الدول العربية. ومثل هذا الترتيب من شأنه أن يكون بمثابة بديل لفرض سلطة انتقالية دولية أو “مجلس مراقبة” أجنبي. وقد يكون مثل هذا النهج هو الخيار الأكثر عملية، مع تجنب أي إعادة إنتاج لديناميكيات الاحتلال. وتثبت التجارب السابقة كذلك أن أي إطار لإعادة الإعمار يفتقر إلى الترتيبات السياسية الداخلية لتعزيز شرعية هيكل الحكم الفلسطيني في غزة سيكون مصيره الفشل. ومن شأن هذا الإطار أن يعزز عملية إعادة إعمار أكثر موضوعية وواقعية، وتعكس المجتمع الفلسطيني وتكون قادرة على ضمان نجاح هذه المهمة الأساسية، وخاصة في ضوء الدمار الشامل الذي شهدته غزة. وبناء على ذلك، ينبغي تنفيذ مساعدات إعادة الإعمار ومشاريع التنمية من خلال المؤسسات الفلسطينية، بالتنسيق المشترك مع الأمم المتحدة، مسترشدة باستراتيجية فلسطينية شاملة وموجهة نحو المستقبل للتنمية والتمكين. ومن شأن هذا النموذج أن يضمن ملكية الفلسطينيين لعملية إعادة الإعمار، وتحويلهم من متلقين سلبيين للمساعدات ورؤى مفروضة من الخارج إلى فاعلين وشركاء في إعادة بناء وطنهم.
هناك حاجة ملحة لإحياء الحوار الوطني الفلسطيني الداخلي، سواء تم تسهيله أو الإشراف عليه أو تنسيقه من قبل الشركاء العرب، أو بمبادرة من الفلسطينيين أنفسهم، لتحديد نظام سياسي لا يزال غائبا حتى يومنا هذا. لقد فشلت عقيدة إسرائيل الأمنية المتمركزة، والتي أخضعت باستمرار الاعتبارات السياسية للضرورات الأمنية، في تحقيق الأمن الدائم على مدى العقود الماضية. وينبع هذا الفشل من تجاهل إسرائيل للسياق الوطني والسياسي الفلسطيني، وهو ما انعكس في الجهود المنهجية لتقويضه. وبدون الاعتراف بالشرعية الفلسطينية، والاعتراف بالحق في إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، والسماح للفلسطينيين بممارسة الحكم الديمقراطي من خلال انتخابات حرة ومباشرة، فإن إسرائيل ستظل تفتقر إلى الأمن الحقيقي والاستقرار على المدى الطويل. ومن شأن هذا النهج أن يرسم مسارًا واقعيًا لكل من الشؤون الفلسطينية الداخلية وإدارة العلاقات مع الحكومات الإسرائيلية.
ومن المستحيل تحقيق الاستقرار في غزة أو الضفة الغربية في ظل الإشراف الميداني الإسرائيلي الدائم المستمر، لأن استمرار الاحتلال يؤدي بطبيعته إلى تفاقم التوتر في جميع أنحاء فلسطين. إن إنشاء دولة فلسطينية تتمتع بسلطة سيادية لاتخاذ القرار من شأنه أن يوفر أساساً أكثر استدامة للأمن من إطار الاحتلال السائد. ومن الممكن أن يؤدي التوصل إلى ترتيب أمني ثلاثي محتمل يضم الفلسطينيين ومصر والأردن، بالتنسيق مع إسرائيل، إلى ضمان ضمانات أمنية شاملة لجميع الأطراف.
وهذا يؤدي إلى المطلب الدولي المركزي الذي أبرزه مؤتمر نيويورك، وهو ضرورة حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة تتمتع بسلطة اتخاذ القرار الكاملة، ومتحررة من السيطرة الإسرائيلية. لقد كانت حرب غزة الأخيرة بمثابة تذكير للمجتمع الدولي بالمخاطر الكامنة في التغاضي عن استمرار الاحتلال وسياساته، على الرغم من اتفاقات أوسلو. إن الفشل في مواجهة الاستراتيجيات الإسرائيلية، التي تعززها سيطرتها الفعلية على الأرض، لن يحل القضية الفلسطينية؛ بل إن استمرار إهمال التسوية السياسية لن يؤدي إلا إلى زيادة احتمالات عدم الاستقرار في المستقبل وتجدد الصراع.
ويظل الغموض الحالي الذي يحيط بالانسحاب وطبيعة أي قوة دولية يمثل نقطة ضعف خطيرة يتعين معالجتها. وبناءً على ذلك فإن إعلان المبادئ المشترك، الذي أقرته الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، لابد أن يحدد جدولاً زمنياً واضحاً لانتهاء الدور القتالي الإسرائيلي في غزة، وأن يرفض صراحة مفهوم “الوصاية” المفتوحة، ويلتزم بانتقال منظم نحو كيان حكم مؤقت.
في الختام، إن الإجابة على السؤال الرئيسي ببساطة هي أنه لا الإطار الإسرائيلي ولا الإطار الدولي قادر على ضمان وقف إطلاق النار المستدام وإنشاء آلية فعالة للحكم في غزة.
ومن الضروري أن يصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قراراً دولياً ينص على ضمانات صريحة وطويلة الأمد لحماية الشعب الفلسطيني وتحقيق تطلعاته السياسية المشروعة إلى إقامة دولته، في حين يفرض على إسرائيل إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية.
ينبغي على المنظمات الدولية والإقليمية توفير إطار مشروع لضمان العدالة، ودعم المؤسسات الفلسطينية باعتبارها القوة الرائدة في بناء دولتها، بدلاً من فرض الحلول المدفوعة من الخارج.
وعلى نحو مماثل، يتعين على الدول العربية أن تتولى دور الضامنين الإقليميين بدلاً من الوسطاء العابرين، وأن تتولى موقعاً مركزياً في ممارسة الضغوط الجماعية من أجل التوصل إلى حل سياسي. ومن خلال هذه المشاركة فقط يمكن تحقيق وقف إطلاق نار مستدام، بدلاً من توقف مؤقت من شأنه أن ينهار ويتحول إلى صراع متجدد.
رأي: هل ستنهي خطة ترامب الحرب في غزة؟
الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.