وفي أعقاب ما يسمى بخطة غزة، عبرت كل من إسرائيل وحماس مرة أخرى الحدود التي تعهدتا باحترامها. وكان من المفترض أن تمثل الخطة، التي تم تقديمها للعالم باعتبارها اختراقا إنسانيا، بداية هدوء هش بعد عامين من الدمار الذي لا يمكن تصوره في القطاع. ولكن في غضون أسابيع من إعلانه، تراكمت انتهاكات وقف إطلاق النار، وأزهقت أرواح، وتحول الوعد بالسلام إلى غبار. لقد كشفت دورة التحدي والعنف التي تقابل العنف عن حقيقة واحدة لا يمكن إنكارها، وهي أن خطة غزة لم تكن تتعلق بالسلام على الإطلاق، بل كانت تتعلق بالبصريات.

وجاءت الانتهاكات بسرعة. وواصلت إسرائيل شن هجمات مستهدفة بذريعة فرض الأمن، في حين أطلقت حماس صواريخ متفرقة وقاومت شروط تبادل الأسرى. وكان كل عمل يبرره الآخر، ويطالب كل جانب بالأرضية الأخلاقية العالية. لكن الواقع على الأرض كشف عن كلا الروايتين. ومرة أخرى يتحمل المدنيون العاديون في غزة تكاليف المناورات الجيوسياسية، فيقعون في شرك صراع لم يكن أي من الطرفين راغباً حقاً في إنهائه. وراء عناوين “انتهاكات الهدنة” و”الحوادث الأمنية”، أصبح من الواضح أن خطة غزة لم تكن مصممة أبدًا لمعالجة جذور الصراع، بل كان وقفًا لإطلاق النار في زي دبلوماسي.

واحتفل الرعاة الدوليون للخطة، وخاصة الولايات المتحدة والقوى الأوروبية، بها باعتبارها خطوة نحو وقف التصعيد. وتحدثوا بنبرة هادئة عن الممرات الإنسانية ومساعدات إعادة الإعمار، وعن إعادة بناء المدارس والمستشفيات، وعن مساعدة سكان غزة على التعافي. لكن حرصهم على إعلان نجاحهم الأخلاقي لم يؤد إلا إلى التأكيد على فشلهم السابق، وتواطؤهم في السماح باستمرار الحرب دون رادع لمدة عامين. بالنسبة لواشنطن وبروكسل، أصبحت خطة غزة وسيلة لتطهير ضميرهما، ومحو صورة الزعماء الغربيين الذين ينظرون بعيدا بينما تحولت أحياء بأكملها إلى أنقاض. لقد كان ذلك بمثابة تمرين لإعادة تأهيل السمعة أكثر من كونه مخططًا للسلام.

وقد فهمت إسرائيل ذلك تماماً. وسمحت لها الخطة بالادعاء بأنها تعاونت مع الدبلوماسية العالمية بينما حافظت بهدوء على حصارها وسيطرتها على حدود غزة. وكان الوعد بإعادة الإعمار متدلياً كوسيلة ضغط، مشروطاً بالسلوك السياسي في غزة. وفي الوقت نفسه، فسرت حماس الخطة باعتبارها متنفساً، ولحظة لإعادة تجميع صفوفها وإعادة تسليحها، وفرصة لإعادة تأكيد نفسها كمدافع عن المقاومة الفلسطينية. وفي رقصة الخداع هذه، استغل الطرفان الغموض الذي يشوب الاتفاق، في حين تظاهر الوسطاء الدوليون بعدم الانتباه. وما تم الكشف عنه لم يكن خريطة طريق للمصالحة، بل تجميد مؤقت لحرب من المقرر أن تستأنف.

ولم تكن الانتهاكات في حد ذاتها حوادث عشوائية، بل كانت أعراضًا لحقيقة أعمق، وهي أن أي طرف في خطة غزة لا يؤمن حقًا بمستقبل مشترك. لقد رأت إسرائيل في الأمن، وليس التعايش، مبدأها التوجيهي. لقد رأت حماس أن البقاء، وليس الدبلوماسية، هو مهمتها. ورأت الولايات المتحدة وأوروبا أن الحد من الضرر، وليس العدالة، هو هدفهما. ومع عودة الضربات الجوية إلى رفح ووصول صواريخ المسلحين إلى ما وراء المنطقة العازلة، انهار وقف إطلاق النار الهش ودخل في نفس الإيقاع المأساوي من الانتقام والغضب. تم الإبلاغ عن كل انتهاك باعتباره حدثًا جديدًا، لكنه في الحقيقة كان استمرارًا لنمط قديم، وهو الانهيار المتوقع لاتفاق لم يكن متجذرًا أبدًا في المساواة أو الثقة.

إن ما كشفته خطة غزة هو عدم الأمانة البنيوية لعملية صنع السلام الدولي. على مدى عقود من الزمن، صاغت القوى الغربية مبادرات تبدو متوازنة على الورق ولكنها منحرفة سياسيا في الممارسة العملية. إنهم يتحدثون عن دولتين، لكنهم يتصرفون وكأن دولة واحدة فقط هي التي تستحق السيادة. إنهم يدينون العنف ولكنهم يمولون الآلية التي تدعمه. عندما يطالب الفلسطينيون بالعدالة، يُعرض عليهم حزم المساعدات، وعندما يطالبون بالاعتراف بهم، يُطلب منهم انتظار المفاوضات التي لا تصل أبدًا. وتتناسب خطة غزة مع هذا النمط بسلاسة، فهي عبارة عن ضمادة دبلوماسية توضع فوق جرح أخلاقي لا يزال ينزف.

اقرأ: انتهاكات وقف إطلاق النار تديم الإبادة الجماعية في غزة: أطباء بلا حدود

إن تصور أن السلام يمكن أن ينشأ من مثل هذا النفاق هو إساءة فهم طبيعة الصراع نفسه. والمشكلة ليست مجرد تكرار انتهاكات وقف إطلاق النار، بل هي غياب الأفق السياسي. فالهدنة من دون رؤية للدولة الفلسطينية لا تعتبر سلاماً، بل هي شلل. إن كل اتفاق يتجاهل المسألة الأساسية المتعلقة بالسيادة محكوم عليه بالفشل، لأنه يعالج الأعراض وليس الأسباب. لقد سعت خطة غزة إلى إسكات الأسلحة مؤقتًا، لكنها لم تفعل شيئًا لمعالجة سبب إطلاق النار في المقام الأول. لقد جمدت الصراع القائم، وأضفت الطابع المؤسسي على الخلل الذي زعمت أنه يحله.

وهذا ما يسمى في الأوساط الدبلوماسية “إدارة الصراع”. ومن الناحية الأخلاقية، فهو تنازل. إن الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين يفضلون عدم الاستقرار الموجه على التحول الحقيقي، لأن السلام الحقيقي يتطلب منهم مواجهة السياسات الإسرائيلية بشكل مباشر. وهذا يعني الاعتراف بأن الاحتلال والحصار والإنكار المنهجي لحقوق الفلسطينيين ليست انحرافات مؤقتة ولكنها أساس النظام الحالي. وهذا يعني استخدام النفوذ السياسي والاقتصادي ليس لحماية إسرائيل من المساءلة، بل للمطالبة بها. وهذه خطوة لا يرغب سوى عدد قليل من العواصم الغربية في اتخاذها، لأنها ستكشف تواطؤها في إدامة الظلم الذي تدعي أنها تعارضه.

وبالتالي فإن الانتهاكات التي تلت خطة غزة ليست مجرد حوادث، بل هي النتيجة المنطقية لاستراتيجية مبنية على الإنكار. إن إسرائيل تتصرف دون عقاب لأنها أدركت أن الغضب الدبلوماسي ليس له أي عواقب. وترد حماس لأنها تعلم أن دائرة العنف هي مصدرها الوحيد. ويصدر الوسطاء بيانات قلقة أثناء التحضير للجولة المقبلة من المفاوضات التي ستعود مرة أخرى بالسلام دون تحقيقه. وهذا النمط مألوف للغاية حتى أن الضحايا توقفوا عن الإيمان بالتغيير.

ومع ذلك فإن السلام ليس وهماً، بل هو خيار. إن السلام الحقيقي يتطلب من العالم أن يتوقف عن التعامل مع فلسطين باعتبارها مشكلة إنسانية وأن يبدأ في الاعتراف بها كواقع سياسي. فهو يعني التزاماً دولياً موحداً بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، ليس كورقة مساومة بل كحق. وهذا يعني ممارسة ضغط متواصل على إسرائيل لحملها على إنهاء احتلالها وتفكيك هياكل السيطرة التي تجعل من غزة سجناً مفتوحاً. ويعني ذلك محاسبة الطرفين على الانتهاكات، ليس بشكل انتقائي على أساس التحالف أو الأيديولوجية ولكن على أساس القانون والإنسانية.

وكان من الممكن أن تشكل خطة غزة نقطة التحول هذه، لو أنها بنيت على العدالة وليس على المصلحة. ولكن ما دامت أقوى دول العالم تستخدم الهدنات المؤقتة لتطهير سجلها الأخلاقي، فإن غزة ستظل مقبرة للدبلوماسية الفاشلة. إن الانتهاكات الأخيرة هي تذكير بأن الحرب لم تتوقف أبدًا، بل توقفت فقط للسماح لمهندسي السياسة بإعادة كتابة رواياتهم. وتصبح معاناة المدنيين خلفية للمؤتمرات الصحفية ومؤتمرات القمة، وثمن الحفاظ على الأوهام السياسية.

ولكي يتجذر السلام الدائم، يتعين على المجتمع الدولي أن يتخلى عن عادته في إدارة الصراعات وأن يبدأ في حلها. الخطوة الأولى هي الصدق، والاعتراف بأنه لا يمكن أن يكون هناك استقرار مستدام بدون حرية، ولا إعادة إعمار بدون سيادة، ولا أمن بدون عدالة. إن شعب غزة لا يحتاج إلى خطة أخرى، بل يحتاج إلى وعد يتحقق، إلى وعد دولة خاصة به. وفقط عندما يتم تبني هذه الرؤية، ليس فقط من قبل الفلسطينيين ولكن من قبل أولئك الذين يدعون أنهم يناصرون حقوق الإنسان، فإن الانتهاكات التي لا نهاية لها سوف تتوقف عن تحديد قصة غزة.

وحتى ذلك الحين فإن خطة غزة سوف تظل كما كانت دائماً، وقف إطلاق النار دون قناعة، وبادرة تفتقر إلى الشجاعة، والتذكير بأن السلام في سياسات الأقوياء غالباً ما يكون الوعد الأكثر قابلية للتنفيذ على الإطلاق.

رأي: الغارات الإسرائيلية الأخيرة على غزة تكشف الوهم الهش للسلام

الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.


شاركها.