في 26 يوليو/تموز 2024، أعلن مكتب رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن حكومته لن تتبنى الاستئناف الذي تقدمت به حكومة المحافظين أمام المحكمة الجنائية الدولية، وأنها لن تتدخل في عمل المحكمة في إصدار مذكرات اعتقال ضد نتنياهو ووزير الدفاع غالانت. وجاء هذا الإعلان بعد تردد طويل وإصدار تصريحات متضاربة، مما يعكس الحيرة التي تسببت بها حكومة المحافظين التي تقدمت بهذا الطلب خلال الانتخابات.

لقد تلقت حكومة كير ستارمر بالتأكيد رأيًا قانونيًا من النائب العام الجديد يوضح أنه لا يوجد أساس قانوني لهذا الاستئناف، مما قد يؤدي أيضًا إلى اتهام الحكومة الجديدة بعرقلة إجراءات المحكمة والظهور كمدافع عن المشتبه بهم في جرائم خطيرة.

وكان رد فعل اللوبي الصهيوني على هذا البيان هو اتهامات غاضبة للحكومة الجديدة بتغيير سياساتها تجاه إسرائيل بشكل جذري، واعتبار ذلك خطأ استراتيجيا وأخلاقيا. وأشارت اللوبي بأصابع الاتهام بشكل خاص إلى النائب العام الجديد السيد ريتشارد هيرمر، الذي قدم رأيا قانونيا للحكومة، يؤكد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

اقرأ: إسرائيل تطلب من 25 دولة التدخل ضد مذكرات اعتقال المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وجالانت

ورغم سحب الحكومة لاستئنافها، فإن الضرر قد وقع بالفعل من خلال عرقلة إصدار أوامر الاعتقال، لأنه عندما قدمت بريطانيا الاستئناف أمام الدائرة التمهيدية، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية فتح الباب أمام أي طلبات تعرف باسم “Amicus Curiae”، أو “طلب صديق المحكمة”، لمساعدة القضاة في اتخاذ القرار بشأن الاستئناف.

وتلقت المحكمة طلبات هائلة تطالب بالسماح بتقديم مثل هذه الطلبات، وفي 22 يوليو/تموز 2024، أصدرت الدائرة التمهيدية قراراً يمنح الإذن لعشرات المؤسسات والأفراد والدول بتقديم طلباتهم في موعد أقصاه 6 أغسطس/آب 2024.

وقد حصلت العشرات من المؤسسات والأفراد والدول التي تعارض اختصاص المحكمة على الإسرائيليين على الإذن بتقديم طلبات تطعن في شرعية إصدار أوامر الاعتقال، في حين حصلت العشرات من المؤسسات والدول والأفراد على الإذن بتقديم طلباتها التي تدعم اختصاص المحكمة.

وبينما تجري هذه الإجراءات، ما زال الشعب الفلسطيني ينتظر تحقيق العدالة، جزئياً أو رمزياً. ورغم الجرائم الجسيمة التي ترتكب يومياً منذ عقود ضد الفلسطينيين، لم تتمكن أي من الهيئات الدولية من التحقيق في الجرائم ومحاسبة مرتكبيها. وكل ما تلقاه الشعب الفلسطيني هو الإدانات والقرارات الخجولة المحفوظة في أدراج الأمم المتحدة.

وقد أتاح إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ودخول نظام روما حيز النفاذ في الأول من يوليو/تموز 2002 المجال لملاحقة بعض هذه الجرائم عندما أحالت دولة فلسطين الجرائم المرتكبة منذ 13 يونيو/حزيران 2014 وما بعده.

ومنذ ذلك التاريخ، كانت الملفات المقدمة إلى مكتب المدعي العام تمر بعملية بطيئة للغاية استمرت لسنوات، حتى أعلن كريم خان في 20 مايو/أيار 2024، أنه قدم طلباً إلى الدائرة التمهيدية للموافقة على أوامر اعتقال ضد نتنياهو ويواف غالانت.

وقد جاء هذا الإعلان بمثابة صدمة لإسرائيل وحلفائها، الذين هددوا واتهموا المحكمة بمعاداة السامية. وفتحت بريطانيا، بقيادة الحكومة المحافظة، الباب أمام عرقلة إصدار مذكرات اعتقال بحق المشتبه بهم.

وترتكز الدعوى البريطانية على بند في اتفاقات أوسلو ينص على أن السلطة الفلسطينية ليس لها ولاية قضائية على المواطنين الإسرائيليين، وبالتالي لا يمكنها نقل هذه الولاية إلى المحكمة الجنائية الدولية. وعلاوة على ذلك، لم يتفاوض مكتب المدعي العام مع الجانب الإسرائيلي لاستكشاف مدى استعداد إسرائيل أو قدرتها على التحقيق في الجرائم المعروضة وفقاً للمادة الأولى من النظام الأساسي للمحكمة.

يقرأ: الولايات المتحدة تضغط على الحكومة البريطانية الجديدة لتأييد الطعن القانوني في مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية

وكان من الواجب على القضاة أن يحكموا في هذه النقاط، نظراً لمعرفتهم الواسعة بأحكام القانون الدولي الإنساني والواقع الصعب الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال، إلا أنهم قرروا فتح الباب أمام تدخل أطراف مختلفة، الأمر الذي أدى إلى عرقلة إصدار أوامر الاعتقال لعدة أشهر.

ويدعم هذا الرأي أن المحكمة سبق أن حكمت في قضايا أثيرت عندما طلب منها المدعي العام السابق تحديد نطاق الاختصاص الإقليمي. وعندما أثيرت مسألة ما إذا كانت فلسطين دولة أم لا، ركز معارضو اختصاص المحكمة على حقيقة أن فلسطين ليست دولة، وبالتالي فإن المحكمة ليس لها اختصاص.

وردت المحكمة على هذه الحجج بأن فلسطين انضمت إلى نظام روما وفقا للإجراءات المتعارف عليها، ولها أيضا مكانة واعتبار في الأمم المتحدة، فضلا عن أن هذه المسألة تشكل جزءا من القانون الدولي العام وليس للقضاة سلطة الفصل فيها، حيث لا يدخل في اختصاص المحكمة الفصل في وضع الدولة.

ولو أخذت المحكمة في الاعتبار اتفاق أوسلو لما توصلت إلى هذا الاستنتاج. ذلك أن اتفاق أوسلو يحظر على سلطة الحكم الذاتي التصرف كدولة والانضمام إلى المنظمات الدولية، ولا يجوز لها أن توقع اتفاقيات مع جهات مانحة دولية باسم منظمة التحرير الفلسطينية إلا لأغراض اقتصادية بحتة.

يمكننا أن نقول بكل تأكيد أن قضاة المحكمة الجنائية الدولية كانوا يتعاملون مع قضيتين، الأولى هي سلطة الحكم الذاتي التي نشأت عن اتفاق أوسلو والثانية هي دولة فلسطين التي نشأت بصفتها هذه بموجب قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولذلك تعاملت مع الآثار الإيجابية للقضية الثانية وتجاهلت الأولى التي لا تعنيها على الإطلاق.

ولذلك كان من السهل على القضاة أن يصلوا إلى مثل هذا الاستنتاج، فإذا افترضنا صحة اتفاق أوسلو فإنه يصبح ملزماً للموقعين عليه وليس لأي طرف ثالث، وفي حال نشوء أي نزاع بسبب هذا الاتفاق فإنه يتحدد وفقاً للاتفاق نفسه الذي حدد آلية حل النزاع، والمحكمة الجنائية الدولية ليست المكان المناسب لذلك لأنها تمارس اختصاصها وفقاً لاتفاقية روما التي أصبحت أعلى من أي قانون داخلي أو اتفاقية ثنائية عندما صادقت عليها دولة فلسطين.

هناك عدة قضايا لن تناقشها المحكمة الجنائية الدولية لأنها ليست الجهة المختصة بمعالجتها، ونذكرها هنا لتوضيح حكم القانون الدولي، حيث يعتبر البند الوارد في اتفاق أوسلو لاغياً بشكل مطلق، ويصبح غير موجود لأنه يخالف قاعدة إلزامية في اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر على أي سلطة تحت الاحتلال التنازل عن السلطة القضائية لصالح الاحتلال (اتفاقية جنيف الرابعة المواد 8، 47، 146).

يقرأ: نتنياهو يخشى صدور أوامر اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بسبب جرائم غزة بحلول 24 يوليو

لقد أصبحت اتفاقيات أوسلو غير صالحة منذ توقيعها بسبب مخالفتها لقواعد القانون الدولي الإلزامية، وقد أجهضت العديد من الحقوق المنصوص عليها في هذه القواعد، وأبرزها حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.

وإذا افترضنا أن اتفاق أوسلو سليم، فإنه يعتبر من الاتفاقات الأولية لتحقيق السلام، وله إطار زمني محدد، حيث تمتد الفترة الانتقالية من ثلاث إلى خمس سنوات من تاريخ التوقيع عليه لبدء المفاوضات حول الحل النهائي، إلا أن إسرائيل استغلت الاتفاق للسيطرة على الأرض وإقامة المستوطنات، ولم تنجح أي مفاوضات في تحقيق الأهداف المرجوة. ويصادف الثالث عشر من سبتمبر/أيلول مرور 31 عاماً على توقيع اتفاق أوسلو، وهو ما يعني أن اتفاق أوسلو أصبح لاغياً وباطلا منذ 27 عاماً، وهو ما عززه الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في التاسع عشر من يوليو/تموز.

ومن يزعم أن هذه معاهدة دولية صحيحة يفتقر إلى الحجج القانونية السليمة، لأن كل الحجج ذات طبيعة سياسية مستمدة من واقع خادع حيث أقيمت سلطة على الأرض، لكنها لا تملك السيطرة على أي شيء إلا خدمة الاحتلال.

ومن الشروط الأساسية لإبرام الاتفاقيات هي الموافقة وحرية الإرادة، وهو ما لم يتمتع به الجانب الفلسطيني عندما تفاوض ووقع على الاتفاق، بالإضافة إلى حسن النية عند تنفيذه، حيث نفذ الاحتلال بنود الاتفاق كما يحلو له، مما أدى إلى إفشال مفاوضات الحل النهائي، وتوسيع استيطانه، والسيطرة على الأرض.

إذا قبلت المحكمة بند أوسلو المذكور، فإننا سنواجه وضعاً شاذاً يمنح الحصانة للمواطنين الإسرائيليين، حيث لن تتمكن المحكمة إلا من مقاضاة الجرائم التي يرتكبها غير الإسرائيليين، وهذا أمر غير مقبول قانونياً ومنطقياً، ويخالف الغرض الذي أنشئت من أجله المحكمة الجنائية الدولية، وهو منع الجناة من الإفلات من العقاب.

وتتعزز اختصاصات المحكمة بوجود الدول الخمس التي أحالت الوضع في فلسطين وفقاً للمادة 13 (أ) والمادة 14 من نظام روما، وهذه الدول هي جنوب أفريقيا، وجيبوتي، وبوليفيا، وجزر القمر، وبنغلاديش.

والنقطة الثانية هي أن مكتب المدعي العام لم يدخل في مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي لاستكشاف قدرة القضاء الإسرائيلي على النظر في الجرائم، نظراً لأن اختصاص المحكمة مكمل لاختصاص المحاكم الوطنية.

إن الاعتماد على هذه النقطة غير واقعي، خاصة وأن إسرائيل لم تقم منذ خضوع الأراضي المحتلة لولاية المحكمة الجنائية الدولية بإجراء أي تحقيق جدي لملاحقة المسؤولين عن الجرائم، بمن فيهم رئيس الوزراء والوزراء. ويبدو هذا مستحيل التنفيذ، حيث عززوا مبدأ الإفلات من العقاب على مدى عقود من الاحتلال.

ورغم هذه العراقيل، ورغم تعامل الدائرة التمهيدية مع الاستئناف بطريقة إجرائية تستغرق وقتاً طويلاً، فإننا على ثقة من أن الاستئناف لن يُقبل أبداً. وسوف تذهب جهود كل أعداء المحكمة الذين تقدموا بطلب “صديق للمحكمة” أدراج الرياح، لأن هذه ليست المرة الأولى التي يحشدون فيها جهودهم لعرقلة الإجراءات.

لقد ورثت الحكومات البريطانية المتعاقبة الظلم التاريخي الذي وقع على الفلسطينيين، ولم تتخذ أي حكومة أي إجراء لرفع هذا الظلم، بل حشدت جميعها كل أشكال الدعم لحكومة الاحتلال. وبالإضافة إلى ورث الظلم التاريخي، ترث حكومة حزب العمال الجديدة اليوم عبئاً ثقيلاً من الاتهامات للحكومة السابقة بالتورط في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية.

ولكي تكفر الحكومة الجديدة عن ذنبها، كان يتعين عليها ليس فقط سحب الاستئناف، بل أيضاً أن تقدم للمحكمة تفسيراً كاملاً لسبب سحب الحكومة لطلبها، وهو ما يضعف بلا شك موقف المعارضين لاختصاص المحكمة.

ويجب على الحكومة أيضاً أن تتخذ خطوات أكثر جرأة لتعظيم الجهود لوقف الإبادة الجماعية، وأبرزها وقف تصدير كافة أنواع الأسلحة إلى إسرائيل، لأن معاناة الناس في قطاع غزة تفوق التصور، وحكومة الاحتلال بقيادة نتنياهو فقدت عقلها بسبب الدعم الذي تتلقاه من الدول الغربية الاستعمارية.

رأي: انقسام الغرب بشأن مذكرات اعتقال المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وجالانت

الآراء الواردة في هذه المقالة تعود للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لموقع ميدل إيست مونيتور.

شاركها.