“كل ضربة دواسة هي رسالة تضامن مع شعبي في غزة، مهما كلف الأمر، سنعيد بناء منازلنا من جديد”. بهذه الكلمات، حدد عبد الرحمن نبرة مهمته غير العادية – ركوب الدراجة من ألمانيا إلى فلسطين لرفع مستوى الوعي النقدي وجمع الأموال لمرفق رعاية صحية في غزة.
ولد عابد ونشأ في ألمانيا لأبوين فلسطينيين، ليجد نفسه متأرجحاً بين عالمين، مقيداً بتراثه، ومفصولاً بسبب الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي الذي يفرض عليه حرية التنقل.
“لطالما أحببت الذهاب إلى غزة، لكن زيارة منزلي لم تكن سهلة أبداً”، يشاركنا عابد بصوت مشوب بالحنين وهو يصف الرحلة الشاقة عبر شبه جزيرة سيناء المصرية، والتي اتسمت بنقاط التفتيش الأمنية والحواجز.
“إن غزة ليست مكاناً نستطيع أن نسافر إليه بالطائرة. ففي بعض الأحيان، يستغرق عبور شبه جزيرة سيناء في مصر يومين أو ثلاثة أو حتى أربعة أيام. فنحن نخضع للمراقبة ونضطر إلى الخضوع لفحوصات أمنية مثل المجرمين. إنه أمر محبط للغاية ولكن يتعين علينا أن نتحمله بسبب ارتباطنا بأرض آبائنا. إنها وطننا ومكان خاص، ليس فقط بالنسبة للفلسطينيين، بل وأيضاً بالنسبة للبشرية جمعاء”.
كانت هذه الزيارة التي قام بها مع والدته العام الماضي لحضور حفل زفاف أحد أقاربه هي التي بدأت حرب إسرائيل على المنطقة. وخلال إقامته في مخيم الشاطئ للاجئين في شمال مدينة غزة، تحولت المناسبة السعيدة بسرعة إلى تجربة مروعة مع انزلاق المنطقة إلى الفوضى.
وعلى الرغم من حصوله على جواز سفر ألماني، كانت عملية العودة إلى ألمانيا محفوفة بالمخاطر السياسية والشخصية. ويروي عابد أن السفارة الألمانية ادعت أنها “عاجزة” عن وقف الحرب أو تسهيل عودته. ونتيجة لهذا، تحمل عابد أهوال القصف الإسرائيلي لمدة خمسة أسابيع، ونجا بأعجوبة من الموت عدة مرات عندما سقطت القنابل على بعد أمتار قليلة منه.
“كنت على وشك أن أتعرض للقتل ثلاث مرات بواسطة قنبلة! لكن الحكومة الألمانية لا تهتم بنا أو بحياتنا. لا يتم استخدامنا كدروع بشرية في غزة، بل يتم استخدامنا كدروع سياسية بشرية من قبل الحكومات”.
ونصحته السفارة الألمانية بالانتظار حتى يتغير الوضع، مؤكدة عدم قدرتها على المساعدة. إلا أن عابد أشار إلى أن ألمانيا تدعم إسرائيل بالأسلحة والذخائر التي تستخدمها ضد الفلسطينيين في غزة، ما يثبت قدرتها على التدخل إذا اختارت ذلك.
رأي: هل فرض العقوبات على المستوطنين والمنظمات الإسرائيلية هو أفضل ما يمكن للاتحاد الأوروبي فعله؟
تعد ألمانيا ثاني أكبر مصدر للأسلحة إلى إسرائيل من حيث الأسلحة التقليدية الرئيسية، بنسبة تزيد عن 25 في المائة من الواردات بين عامي 2019 و2023.
قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وافقت ألمانيا بالفعل على تصدير أسلحة بقيمة 326 مليون يورو (352 مليون دولار) إلى إسرائيل، واستمرت في إصدار تراخيص للمعدات العسكرية، بما في ذلك ذخيرة التدريب، وفقًا لوكالة رويترز للأنباء. الطب الشرعي.
وتشمل هذه التراخيص التكنولوجيا العسكرية، والمعدات الإلكترونية، والسفن الحربية، والمعدات البحرية الخاصة، والقنابل، والطوربيدات، والصواريخ والقذائف وغيرها من الأجهزة المتفجرة.
كما قامت ألمانيا بتزويد إسرائيل بمحركات ديزل لدبابات ميركافا 4، والتي تعد ضرورية للعمليات البرية الإسرائيلية. ومنذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تم نشر هذه الدبابات في هجمات على المدنيين والبنية الأساسية في غزة.
في شهر يناير، نشرت الأسبوعية الإخبارية الألمانية، دير شبيجل، وذكرت التقارير أن برلين وافقت على تزويد إسرائيل بعشرة آلاف طلقة من ذخيرة الدبابات عيار 120 ملم من مخزوناتها العسكرية، بناء على طلب إسرائيلي في نوفمبر/تشرين الثاني.
“إنها معجزة أن أتمكن من البقاء على قيد الحياة لمدة خمسة أسابيع”، يقول عابد. “المكان الآن في حالة من الفوضى، ولا يمكن التعرف عليه. إذا رأيت صورًا من الشوارع، ستعتقد أنك على كوكب آخر. يخبرني ابن عمي بانتظام أنه عندما يذهب إلى الشاطئ، لا يستطيع التمييز بين الشوارع. يحتاج إلى النظر عن كثب إلى المباني المنهارة ليتمكن من تحديد مكانه”.
بعد عودته إلى ألمانيا، كان التناقض الصارخ بين الأمان والرعب المستمر في غزة ساحقًا. لقد كان انتقالًا دراماتيكيًا من الخوف المستمر إلى الحياة الطبيعية النسبية. ومع ذلك، لم يجد عابد أي عزاء في الراحة. وبدلاً من ذلك، اختار العمل بدلاً من اليأس.
بدمج حبه لركوب الدراجات مع شغفه بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين، شرع في مهمة لزيادة الوعي وجمع الأموال لمؤسسة رعاية صحية في غزة.
كان أحد الجوانب المهمة في رحلته هو قراره بالسفر بالدراجة عبر البوسنة بسبب تاريخها الحديث من الإبادة الجماعية والحرب. وقد تردد صدى هذا القرار مع تجارب عابد في غزة.
ويشير إلى أن الطريق عبر البلقان لم يكن الأسهل أو الأقصر. وكانت التضاريس المسطحة في أوروبا الشرقية لتكون مساراً أبسط، لكن التحديات الجبلية في البوسنة قدمت أكثر من القدرة على التحمل البدني؛ فقد وفرت خلفية للتأمل في قدرة الإنسان على الصمود والمعاناة. ومن سراييفو، عاصمة البوسنة، استقل سيارة إلى المناظر الطبيعية المرعبة في سربرينيتشا، المكان المرادف للإبادة الجماعية، حيث شعر بارتباط عميق بالألم التاريخي للمنطقة.
ويقارن بين معاناة البوسنيين خلال تسعينيات القرن العشرين والمحنة الحالية للفلسطينيين، ويقول: “لا تزال ندوب الإبادة الجماعية مرئية، ولا يزال بإمكانك رؤية ثقوب الرصاص في منازلهم، لذلك كان هذا هو الجزء الأكثر عاطفية من رحلة الدراجة بالنسبة لي”.
بعد زيارة المواقع الرئيسية، بما في ذلك النصب التذكارية والمتاحف المخصصة للحرب، التقى مع الناجين من الحرب البوسنية الذين فقدوا عائلاتهم للاستماع إلى قصصهم، وشارك تجاربه الخاصة في المعاناة تحت الاحتلال ومواجهة القصف.
رأي: إن تواطؤنا الجماعي وعارنا على غزة متجذر في الهولوكوست
يقول: “لقد شعرت بارتباط حقيقي بهم لأننا تحدثنا نفس اللغة التي تتحدث عن المعاناة الإنسانية والظلم. لقد كانوا مرحبين للغاية وأظهروا تعاطفًا كبيرًا مع القضية الفلسطينية”.
طوال رحلته، كان الهدف الأساسي لعابد هو جمع الأموال لإنشاء مركز صحي في غزة. يقدم هذا المركز، الذي يعمل به عشرة أطباء، خدمات أساسية للمجتمع الذي مزقته الحرب، ويقدم العلاج لمرضى السكري والسرطان والإصابات الناجمة عن القصف. كما يتخصص المركز في علاج الحروق والإصابات الناجمة عن القنابل الإسرائيلية، وتوفير الرعاية الطبية المجانية لمن هم في أمس الحاجة إليها.
وعلى مدى عدة أسابيع، وعلى مسافة تزيد عن 3000 كيلومتر، أصبح الجهد البدني الذي يبذله الفلسطينيون في ركوب الدراجات عبر الجبال بمثابة استعارة للمعركة الشاقة التي يواجهها الفلسطينيون يومياً.
وشمل ذلك منعه من الدخول إلى فلسطين عند وصوله إلى الحدود الأردنية. “لم تنجح الأمور تمامًا كما كنت أرغب حيث لا يمكنني دخول بلدي دون التخلي عن هويتي الفلسطينية، لكن الأمر كان مثيرًا للاهتمام لأن صديقي الذي كان يركب الدراجة معي وهو ليس فلسطينيًا، تمكن من دخول المسجد الأقصى وزيارته”.
ورغم هذه النكسة، يظل عابد ثابتاً على التزامه بقضيته. ولم يؤد منعه من الدخول إلا إلى تعزيز عزيمته على الدفاع عن الشعب الفلسطيني، واستخدام خبرته لإلقاء الضوء على الظلم المستمر وحشد المزيد من الدعم للجهود الإنسانية في غزة.
ويختتم حديثه قائلاً: “لم تكن هذه الرحلة مجرد عبور للحدود المادية، بل كانت تهدف إلى اختراق حواجز الجهل. ورغم أنني لم أتمكن من دخول فلسطين هذه المرة، فإن مهمتي مستمرة. وسنواصل السعي من أجل التغيير والحرية والحق في العودة إلى وطننا”.
رأي: “عالم بلا حدود”: حب ثوري وتضامن مع فلسطين
الآراء الواردة في هذه المقالة تعود للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لموقع ميدل إيست مونيتور.