“لا يا صديقي، لقد غيرت رأيي. لن أتبعك إلى “الأرض التي فيها الخضرة والماء والوجوه الجميلة”. لا، سأبقى هنا ولن أغادرها أبدًا”. بهذه الكلمات الحاسمة، يخلد غسان كنفاني لحظة اختيار عميقة، حيث تمزق الروح بين الهروب والتحمل، بين إغراءات الجنة البعيدة والعناق القاسي الذي لا يلين للوطن. في “رسالة من غزة”، لا يبتكر كنفاني رسالة فحسب، بل بيانًا للمقاومة، وشهادة شعرية على الروح التي لا تقهر لشعب مرتبط بأرضه بأعمق الجذور.
في “رسالة من غزة” لغسان كنفاني، تتكشف لنا قصة بارعة، تتشابك بمهارة بين الشخصي والسياسي لخلق نسيج معقد من الخسارة والحب واليأس والتحدي. أكثر من مجرد رسالة “معبرة”، يتجاوز النص شكله السردي ليتطور إلى استعارة مؤثرة للنضال الفلسطيني، حيث يصبح كل خيط عاطفي متشابكًا بعمق مع الحقائق القاسية للتشريد والاحتلال والمعركة التي لا هوادة فيها من أجل الهوية والاستقلال. وفي ظل هذه التحديات العميقة، يتردد صدى السرد بروح لا هوادة فيها لشعب، على الرغم من القوى المصطفة ضده، يواصل تأكيد وجوده وحقوقه.
إن حياة كنفاني، التي خلّفت النكبة ندوباً لا يمكن محوها، والتي بلغت ذروتها باغتياله المأساوي في عام 1972، تجعل منه مؤرخاً نموذجياً لجراح أمة. وخلال الستينيات، العقد الذي شهد ظهور “رسالة إلى غزة”، كان تشديد قبضة الاحتلال الإسرائيلي وتصاعد اليأس بين الفلسطينيين واضحاً بشكل واضح، مع تفاقم هذا الوضع المزري بسبب حرب الأيام الستة في عام 1967. وفي خضم هذه الاضطرابات السياسية العميقة، تبرز “رسالة من غزة” كاعتراف شخصي مؤثر متشابك مع استعارة وطنية. إن الشكل الرسائلي للنص، الحميمي والمباشر، يسمح لكنفاني بالانخراط في حوار مع القارئ بقدر ما هو مع متلقي الرسالة. وبهذا الشكل، يضع كنفاني بمهارة العادي مقابل غير العادي، والشخصي مع الجماعي، واليومي إلى جانب التاريخي.
اقرأ: جريمة جو بايدن ضد الإنسانية
إن اختيار كنفاني لشكل الرسائل في النص كان متعمداً، لأنه يضفي على السرد طابعاً مباشراً وحميمياً لا يمكن أن يحققه منظور الشخص الثالث التقليدي. والرسالة، الموجهة إلى صديقه الأقدم والأعز مصطفى، الذي يعيش في ساكرامنتو، تصبح بمثابة وعاء يعبر من خلاله الراوي عن الصراع العميق بين الرغبات الشخصية والالتزامات الجماعية التي تفرضها هويته كفلسطيني. ويعكس صوت الراوي، المشبع بإحساس عميق بالتناقض، التوتر بين الحرية الجذابة التي يجدها في كاليفورنيا والواجب الثابت بالبقاء في غزة، على الرغم من شبح العنف والحرمان الذي لا يهدأ.
إن إعلان الراوي المفاجئ ـ “لا يا صديقي، لقد غيرت رأيي. لن أتبعك إلى “الأرض حيث الخضرة والماء والوجوه الجميلة”. لا، سأبقى هنا ولن أغادرها أبداً” ـ ليس مجرد تخلي عن فرصة للتقدم الشخصي. بل هو رفض للسراب المغري للحياة الخالية من ثقل التاريخ. إن قرار الراوي بالبقاء في غزة هو في جوهره إعادة تأكيد لهويته، وهي هوية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأرض والنضال وذكريات شعب عانى من معاناة لا توصف.
إسرائيل تعدم غزة – كاريكاتير (سبأنة/ميدل إيست مونيتور)
إن غزة في رواية كنفاني ليست مجرد كيان جغرافي، بل هي رمز للحصار والمقاومة. وفي تصوير يتسم بنبرته الكئيبة الخانقة، تظهر المدينة كمكان يبدو أن الحياة فيه قد توقفت، حيث الشوارع “المزدحمة” والمكان يشبه “البطانة المنطوية على الذات لصدفة الحلزون الصدئة”. وفي استحضار شعور عميق بالركود، ترسم صور كنفاني رؤية لعالم منفصل عن استمرارية الزمن، حتى في الوقت الذي ينبعث منه قوة هادئة مخفية.
إن انفصال الراوي عن غزة في البداية ـ حرصه على الهروب من “رائحة الهزيمة” التي خلّفت في حياته طيلة سبع سنوات طويلة ـ يشير إلى خيبة أمل أوسع نطاقاً شعر بها العديد من الفلسطينيين خلال هذه الفترة. ولكن هذا الانفصال يزداد تعقيداً مع عودة الراوي إلى غزة، حيث يواجه الحقائق التي كان يأمل أن يتركها وراءه. ومع كشف المدينة عن “شوارعها الضيقة” و”شرفاتها المنتفخة”، فإنها تتحول إلى كيان نابض بالحياة يعكس تدهور التاريخ والإمكانات المأمولة للتجديد.
وتحدث نقطة التحول في القصة عندما يزور الراوي ابنة أخته نادية في المستشفى. نادية، التي فقدت ساقها في هجوم إسرائيلي، تصبح تجسيدًا لغزة نفسها ـ جريحة ومشوهة ولكنها لا تلين. وتبرز ساق نادية المبتورة كرمز قوي للضرر الذي لا يمكن إصلاحه الذي لحق بالشعب الفلسطيني. ولا تجسد الساق الجرح الجسدي فحسب، بل تجسد أيضًا المعاناة الجماعية والتضحيات الدائمة التي قدمها الفلسطينيون في كفاحهم من أجل البقاء والمقاومة.
الصهيونية على حافة الهاوية: حرب غزة بعد نتنياهو
في جوهرها، تشكل “رسالة من غزة” تأملاً في سياسات الذاكرة وحتمية العودة. إن النسخة المخطوطة من التجارب التي تشكل هوية الراوي تتشكل من خلال تشابك ذكرياته عن غزة مع وجوده الحالي. إن الماضي لا يتلاشى في التفاهة أو يتلاشى في النسيان؛ إنه قوة نشطة ودائمة تتطلب استمرار حضور الراوي وتحديه وتذكره. كما تشير رواية كنفاني إلى أن الذاكرة ليست مجرد مستودع للأحداث الماضية ولكنها قوة ديناميكية تشكل الحاضر وتشكله. إن اختيار الراوي البقاء في غزة، بدلاً من الفرار إلى كاليفورنيا، بمثابة اعتراف بالرابط الذي لا ينفصم بين الذاكرة والهوية. إن نسيان غزة، وتركها وراءك، يعني قطع النفس عن جوهر ما يعنيه أن تكون فلسطينيًا. تتبلور هذه الفكرة في النداء الأخير الذي يوجهه الراوي إلى مصطفى: “عد يا صديقي!” “نحن جميعا في انتظاركم”. هذه الدعوة للعودة ليست مجرد عودة جسدية إلى غزة، بل هي دعوة لإعادة الانخراط في النضال، وتأكيد الهوية من خلال فعل التذكر والمقاومة. وتنتهي القصة بإحساس بالعمل غير المكتمل، والنضال المستمر، والطريق الذي لا يزال يتعين علينا أن نسلكه.
في “رسالة من غزة”، يبني كنفاني قصة تتجاوز حدود المراسلات الشخصية لتصبح استكشافًا عميقًا للحالة الفلسطينية. ومن خلال عدسة الصراع الداخلي لرجل واحد، يتعمق كنفاني في موضوعات أوسع نطاقًا تتعلق بالنزوح والذاكرة والمقاومة. ومن خلال المحن التي فرضها التاريخ، تظهر القصة كشهادة قوية على روح شعب دائم، وتبرز رفضهم القاطع للتخلي عن هويتهم أو وطنهم.
في سياق الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة، والذي اتسم بالدمار الواسع النطاق والأعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، تتضخم أهمية سرد غسان كنفاني لتصوير الموضوعات الدائمة المتمثلة في الخسارة والمقاومة والهوية. وبدلاً من مجرد عكس الأحداث الماضية، ظهرت “رسالة إلى غزة” التي كتبها كنفاني باعتبارها تنبؤًا نبويًا بما ينتظرنا، وتصور مستقبلًا حيث يمكن لجراح عصره أن تولد في نهاية المطاف عصرًا جديدًا تشكله قوى الذاكرة الدائمة والمقاومة الخالدة.
الآراء الواردة في هذه المقالة تعود للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لموقع ميدل إيست مونيتور.