وبينما يتركز الاهتمام العالمي على غزة وأوكرانيا، هناك كارثة أخرى تتكشف إلى حد كبير بعيدا عن الأنظار ــ الحرب التي تمزق السودان وتهدد بإعادة رسم خريطة أفريقيا مرة أخرى. يقف السودان الآن على حافة التفكك، حيث تمزقه واحدة من أكثر الصراعات تدميرا التي شهدتها القارة منذ عقود.
هذا ليس صراعا بين متنافسين متساويين. إنها حرب بين جيش وطني يقاتل من أجل الحفاظ على وحدة الدولة، وميليشيا متمردة مدعومة بالذهب والدعم الأجنبي والطموحات الانفصالية. ومع ذلك، يصر العديد من اللاعبين الدوليين على تأطير الأمر على أنه نزاع سياسي بين “فصيلين”، مما يضع القوات المسلحة السودانية – وهي مؤسسة متجذرة في هوية البلاد بعد الاستقلال – على نفس المستوى الأخلاقي مثل قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي.
إن قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي هي قوة هجينة من المقاتلين القبليين (الجنجويد)، والمسلحين التشاديين والمرتزقة المأجورين، الذين تم حشدهم لخدمة إمبراطورية شخصية بعيدة كل البعد عن المصلحة الوطنية للسودان. لقد كان صعوده نيزكيا. ومن خلال الاستيلاء على مناجم الذهب في دارفور، جمع حميدتي ثروة هائلة وقام ببناء هيكل سلطة موازٍ ينافس الدولة نفسها الآن.
في عهد الرئيس السابق عمر البشير، تم تكليف حميدتي بسحق التمرد في دارفور – وهي حملة تميزت بالفظائع ضد المدنيين التي لا يزال ينفيها. وانهار هذا التحالف في وقت لاحق، وانضم حميدتي إلى الجنرال عبد الفتاح البرهان وجماعات مدنية للإطاحة بالبشير.
اقرأ: عن عمليات المرتزقة الإماراتية في أفريقيا
ثم سعى البرهان إلى إعادة تأهيل السودان على المستوى الدولي، حتى أنه حصل على موافقة الغرب من خلال محاولة تطبيع العلاقات مع إسرائيل في عام 2021. لكن هذه المبادرة فشلت في تبديد الشكوك العميقة بين القوى الأجنبية التي نظرت إلى الجيش السوداني باعتباره من بقايا الحكم القومي والإسلامي. وفي هذا السياق، برز حميدتي كثقل موازن مفيد – كزعيم ميليشيا يمكن من خلاله للغرباء إضعاف قبضة الجيش وإعادة تشكيل النظام السياسي في السودان.
منذ اندلاع القتال في 15 أبريل 2023، انزلق السودان إلى الخراب. اجتاحت قوات حميدتي غرب السودان، وشقّت طريقًا يشبه على نحو متزايد المسار الانفصالي لجنوب السودان.
وكان هدفهم الأخير والأكثر دموية هو الفاشر، عاصمة شمال دارفور. وبعد حصار دام 18 شهراً، اقتحم مقاتلو قوات الدعم السريع المدينة، وأطلقوا العنان لمذابح أعادت إلى الأذهان أهوال رواندا والبوسنة – الفظائع التي ارتكبت بينما نظر العالم بعيداً، وخدرته الإبادة الجماعية في غزة. ويمنح سقوط الفاشر حميدتي السيطرة على كل عاصمة ولاية في دارفور، مما يجعل التقسيم ليس خطرا بعيدا بل حقيقة وشيكة.
اقرأ: حرب السودان هي نموذج تجاري للعنف
ومع ذلك، تظل البيانات الدولية مصاغة بلغة محايدة – دعوات إلى “وقف التصعيد” و”وقف الأعمال العدائية” التي ترفض تسمية المعتدي أو الاعتراف بالمسؤولية. وهذا الغموض المتعمد يكافئ التمرد، ويؤدي إلى ترسيخ الانقسام الفعلي تحت ستار “الوساطة” و”التوازن”.
السودان اليوم يحتاج إلى الوضوح وليس التوازن. فهي بحاجة إلى موقف مبدئي يدعم مؤسساتها الوطنية، وعلى رأسها الجيش، مع إخضاعها للمساءلة. ورغم كل عيوبه، يظل الجيش هو الهيكل الأخير الذي يقف بين السودان والانهيار التام.
ولا ينبغي لنا أن ننسى تقاليد السودان الطويلة في مقاومة الهيمنة الأجنبية، ولا ثرواته الطبيعية الهائلة – الذهب، والمياه، والأراضي الخصبة – التي كانت دائماً تجتذب الأعين الطامحة من داخل حدوده وخارجها. بالنسبة للكثيرين، السودان ليس وطنًا يجب الحفاظ عليه، بل كنزًا يجب نهبه.
الصمت في مواجهة مأساة السودان هو خيانة أخلاقية قبل أن تكون خيانة سياسية. والواجب اليوم هو مواصلة الحديث عن السودان، وفضح المتآمرين عليه في الداخل والخارج، ورفض كل أجندة انفصالية تهدد وحدته ومستقبله. إن مصير السودان لن يقرره أمراء الحرب أو الجنرالات، بل سيقرره صمود شعبه، الأمة الأبية التي لا يجوز بيعها بالذهب أو تقسيمها بمطامع أجنبية.
الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.
