إن دعوة بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني لإلقاء خطاب أمام الكونجرس الأمريكي، هي واحدة من الإخفاقات التي أصبحت شائعة في ظل سيطرة اللوبي الصهيوني على النخب الأمريكية في مراكز صنع القرار، والتي تجسدت في الشراكة الأمريكية الكاملة مع إسرائيل في حربها الوحشية على قطاع غزة. الخطاب الذي استغرق قرابة الساعة كاملة، خاطب الأعضاء وتم بثه على الهواء مباشرة عبر التلفزيون إلى العالم أجمع، وسط ترحيب حار وتصفيق، إلا أن الخطاب لم يحمل كلمة واحدة من الحقيقة فيما يتعلق بحرب الإبادة المستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك فيما يتعلق بتاريخ القضية الفلسطينية الذي سجلته الأمم المتحدة في قرارات وبيانات لا يمكن حذفها أو تعديلها.
يبدو أن المجلس التشريعي الأميركي، بمجلسيه، الشيوخ والنواب، تحول إلى منظمة صهيونية تنتمي إلى أوائل القرن الماضي، وتنشط في جمع الأموال وحشد السياسيين من أجل البدء في تهجير اليهود من كل مكان في العالم إلى أرض فلسطين لاحتلالها. وهنا تظهر الأسطورة في احتضان للكذب، في تشابك قوي مع النص التوراتي الذي استخدمه نتنياهو عدة مرات، مكرراً أن إسرائيل دولة يهودية، بينما كانت مجموعات من النواب تصفق له على كل كلمة وكل موقف وكل لفتة. أما المفارقة الحقيقية فكانت خارج المبنى، حيث نظم اليهود المتدينون احتجاجات وترديدوا شعارات ترفض وجود الكيان اليهودي الاستعماري المبني على أرض مغتصبة، فضلاً عن شعارات إنسانية وسياسية تطالب بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
يقرأ: مسؤولون وأكاديميون إسرائيليون سابقون يحثون الكونجرس الأميركي على إعادة النظر في دعوة نتنياهو
في خطابه أمام الكونغرس، كرر نتنياهو مزاعم ثبت كذبها مراراً وتكراراً، تذكرنا بالدعاية في عهد الزعيم النازي ومستشار ألمانيا أدولف هتلر، ومن روج لها وزير الدعاية الألماني بول جوزيف جوبلز، الذي أسس نموذجاً للدعاية يقوم على الإصرار على الكذب لتضليل الوعي. “اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس” كان نهج جوبلز الدعائي، وهذا ما استند إليه نتنياهو في خطابه الوقح، الذي روى فيه الأكاذيب والافتراءات والخداع أمام الكونغرس، مدعياً أن الحرب التي يخوضها على القطاع هي صراع بين الحضارة، أي كيانه العنصري، والهمجية والوحشية، أي الفلسطينيين.
لقد سالت الدماء من كل حرف في خطاب نتنياهو أمام الكونجرس وهو يتحدث عن الإنسانية والحضارة، وكانت البربرية واضحة في زوايا المبنى وكلماته، وهو يتحدث عن الديمقراطية الإسرائيلية والأميركية، رغم أن كل شيء داخل القاعة كان منسوخاً بالكامل من تجارب الدول الشمولية المتخلفة التي تحكمها الطغيان والقمع والجهل. وكان التصفيق الحار والهتاف الحار نسخة طبق الأصل لما يحدث في برلمانات جمهوريات الموز، عندما يتحدث فيها طبيب يحمل في قبضته السلطة السياسية والعسكرية، وفي اليد الأخرى الكهنوت الديني.
لقد استشهد نتنياهو بنصوص العهد القديم في سياق حديثه أمام الحضور عن أن الحرب على الشعب الفلسطيني هي حرب إسرائيل وأميركا، وأن أعداء إسرائيل هم أعداء أميركا، وأنه يقاتل دفاعاً عن الأميركيين والصهاينة، بشكل جعله يبدو وكأنه زعيم الجناح اليميني الصهيوني المتطرف في الحزب الجمهوري، مغلفاً خطابه السياسي بغطاء من الكراهية الدينية والعنصرية الوقحة، وقد استخدم القاتل نتنياهو ذلك لتبرير جرائمه الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني والتي راح ضحيتها حتى الآن أكثر من 40 ألف شهيد وجرح وجرح مئات الآلاف، مدعياً أنها ضرورية وقانونية من أجل تعزيز قيم الحضارة الصهيونية الأميركية!
يحاول نتنياهو بكل وقاحة تسويق حرب الإبادة التي يخوضها ضد الفلسطينيين على أنها معركة بين الحق والباطل، ويصرح بكل وقاحة أن حربه ليست إلا دفاعاً عن النفس، وهو يدرك أنه المعتدي منذ 76 عاماً، وأعضاء الكونجرس، كما العالم أجمع، يدركون ذلك. باختصار، يسعى نتنياهو إلى الترويج لنفسه كرجل سلام، رغم تأكيده على أنه لا مكان لدولة فلسطينية، وأن الشعب الفلسطيني يجب أن يتعايش مع الوضع الراهن ويعلم الأجيال الجديدة ذلك. وهو يدرك أن العالم بدأ يفهم أبعاد الأزمة وتداعياتها، وأن المتظاهرين ما هم إلا تعبير عن حالة جديدة من الوعي، ولكنه بكل وقاحة يتهم المتظاهرين بأنهم مدعومون من إيران وغيرها!
يتصور نتنياهو أنه يستطيع إلغاء التاريخ والجغرافيا لخلق جغرافيا جديدة على بقايا السكان الأصليين، استناداً إلى تاريخ مزور لإقامة إمبراطورية تضم من يصفهم بشركائه العرب في الحرب على محور الشر، مدفوعاً بعقدة أنه دخيل على الجغرافيا كما على التاريخ.
وعلى أية حال فقد تبين أن دولة الكذب والافتراء والخداع هي الحاكم الفعلي للعالم اليوم سواء في العواصم أو البرلمانات أو حتى في المحافل الدولية، مما يؤكد أن حركات التحرر الوطني عبر التاريخ كانت وما زالت الطريق الوحيد الموثوق، فمن خلالها نالت كل البلدان التي كانت تئن تحت وطأة الاستعمار والظلم التحرر والاستقلال.
مهما رحب الكونجرس بنتنياهو ورغم دعم الإدارة الأميركية للكيان الصهيوني، فإن على قادته الصهاينة أن يدركوا أن الشعب الفلسطيني ليس ولن يكون مثل الهنود الحمر، فهو شعب متجذر في التاريخ، مقاوم ولا يقبل الفجور، وليس في قاموسه الاستسلام للمصير الذي يريده الاحتلال، بل سيكتب نهاية هذا الكيان الصهيوني الزائل مهما طال الزمن.
يقرأ: زعيم الحوثيين: خطاب نتنياهو في الكونغرس يعكس “مستوى الأزمة”
الآراء الواردة في هذه المقالة تعود للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لموقع ميدل إيست مونيتور.