لقد كشفت الغارات الجوية الإسرائيلية الأخيرة على غزة مرة أخرى عن هشاشة ما كان العالم يأمل أن تكون هدنة دائمة. بعد أيام قليلة من إقرار ما يسمى بخطة غزة في القاهرة كإطار جديد لإعادة الإعمار والحكم في مرحلة ما بعد الحرب، عادت المنطقة إلى دائرة التصعيد المألوفة والكئيبة. وقصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية أهدافا في أنحاء القطاع، بدعوى الانتقام من هجمات حماس التي أسفرت عن مقتل جنديين، في حين اتهمت حماس إسرائيل باستخدام حوادث أمنية بسيطة كذريعة لقصف الأحياء المدنية. وأياً كانت المبررات فإن النتيجة لا يمكن إنكارها: عشرات القتلى من المدنيين الفلسطينيين، وتوقفت قوافل المساعدات مرة أخرى، وتلاشت آفاق السلام وتحولت إلى سراب آخر.
وكان المقصود من خطة غزة، التي تم الإعلان عنها وسط ضجة كبيرة في قمة إقليمية في مصر، أن تكون أول محاولة منسقة لتحقيق الاستقرار في غزة بعد سنوات من الدمار. وقد تم صياغتها في شكل خارطة طريق متعددة المراحل، تهدف إلى استعادة وصول المساعدات الإنسانية، وإعادة بناء البنية التحتية الأساسية، وتمهيد الطريق في نهاية المطاف لحكم ذاتي محدود تحت إشراف دولي. فقد تعهدت الدول العربية بتقديم الدعم المالي واللوجستي، ووعد الاتحاد الأوروبي بتقديم المساعدة الفنية، وحتى إسرائيل أبدت بحذر استعدادها للتعاون، طالما تمت معالجة مخاوفها الأمنية. للحظة وجيزة، بدا أن الخطة تعكس توافقاً نادراً في المصالح بين الجهات الفاعلة الإقليمية التي ظلت على خلاف طويل حول مصير غزة.
ومع ذلك، كان التفاؤل هشاً دائماً، ويوضح تجدد القتال هذا الأسبوع السبب وراء ذلك. لقد افترضت الخطة درجة من ضبط النفس والثقة المتبادلة غير موجودة ببساطة بين إسرائيل وحماس. ويستمر كل جانب في النظر إلى الطرف الآخر ليس كنظير مفاوض بل كعدو لدود. بالنسبة لإسرائيل فإن حماس تظل منظمة إرهابية، والقضاء عليها يشكل مسألة بقاء وطني. وبالنسبة لحماس فإن سيطرة إسرائيل على حدود غزة ومجالها الجوي واقتصادها تشكل دليلاً على أن الاحتلال لم ينته حقاً. ولم تتمكن خطة غزة، التي صممت لتكون بمثابة مخطط تكنوقراطي، من سد هذا الانقسام الأساسي.
وكانت الولايات المتحدة، التي لعبت دور الوسيط التقليدي في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لفترة طويلة، غائبة بشكل واضح في الأسابيع الأخيرة. وقد أيدت واشنطن مبادرة القاهرة لكنها اختارت عدم أخذ زمام المبادرة، ربما بسبب شعورها بالضجر من فشل دبلوماسي آخر أو بسبب انشغالها بالسياسة الداخلية. وقد حثت إدارة الرئيس بايدن “كلا الجانبين على ممارسة ضبط النفس”، وهي عبارة مبتذلة إلى حد أنها أصبحت الآن جوفاء. وفي غياب المشاركة الأميركية الحازمة، فإن إسرائيل لا تشعر إلا بقدر ضئيل من الضغوط الخارجية لحملها على تخفيف ردودها العسكرية، في حين لا ترى حماس أي حكم جدير بالثقة قادر على تأمين التنازلات من إسرائيل. والنتيجة هي فراغ يملأ فيه العنف الصمت الدبلوماسي.
وقد حاولت مصر والأردن وقطر ملء هذا الفراغ، لكن نفوذها كان محدوداً. إن أولوية القاهرة هي استقرار الحدود، وليس المصالحة السياسية طويلة الأمد. تستطيع الدوحة تمويل إعادة الإعمار، لكنها لا تستطيع فرض الامتثال. إن تأثير عمان هو إلى حد كبير معنوي وليس مادي. لقد سمح غياب وسيط قوي لكل من إسرائيل وحماس بالمناورة بحرية ضمن روايتيهما، سرد إسرائيل للدفاع ضد الإرهاب، وسرد حماس للمقاومة ضد الاحتلال. وكل منهما يستطيع تبرير التصعيد باعتباره دفاعاً عن النفس، وكل منهما يعلم أن الغضب الدولي سوف يتلاشى في نهاية المطاف.
وتكمن المشكلة الأعمق في تصميم خطة غزة ذاتها. على الورق، تصورت هذه الخطة تسلسلاً منظماً، ووقف إطلاق النار، والمساعدات، وإعادة الإعمار، وفي نهاية المطاف إصلاح الحكم. ومن الناحية العملية، تعتمد كل خطوة على التي تليها، مما يخلق سلسلة هشة يسهل كسرها بسبب عدم الثقة. ولابد أن يستمر وقف إطلاق النار حتى تتدفق المساعدات، إلا أن المساعدات من غير الممكن أن تتدفق ما لم تظل المعابر الحدودية مفتوحة، ولن تبقيها إسرائيل مفتوحة إذا اعتقدت أن حماس تعيد تسليح نفسها. وتتطلب جهود إعادة الإعمار ظروفاً أمنية مستقرة، لكن إعادة الإعمار نفسها تصبح هدفاً للشكوك عندما يُنظر إلى مواد مثل الأسمنت والصلب على أنها ذات استخدام مزدوج للأنفاق والأسلحة. وما يبدو وكأنه خريطة طريق عقلانية من طاولة دبلوماسية في القاهرة ينهار تحت وطأة الحقائق في مدينة غزة أو خان يونس.
اقرأ: حكومة غزة: إسرائيل قتلت 97 فلسطينيا، بينهم 44 يوم الأحد، في 80 انتهاكا لوقف إطلاق النار
علاوة على ذلك، قللت الخطة من أهمية الضغوط الداخلية على كلا الجانبين. لا يجوز لحكومة إسرائيل، التي يهيمن عليها جناح اليمين والفصائل القومية، أن تبدو ضعيفة بعد أن تعرضت لواحدة من أسوأ الإحراجات العسكرية في تاريخها. وأي تسوية مع حماس يعتبرها خصومها بمثابة استرضاء للإرهاب. ومن جانبها، تحكم حماس شعباً يعاني من الصدمة بسبب الحصار والقصف، حيث لا تزال المقاومة المسلحة تعتبر الشكل الوحيد المتبقي من الكرامة. إن التفاوض بشكل علني مع إسرائيل يخاطر بتآكل شرعيتها بين الفلسطينيين والفصائل المتنافسة. وبالتالي فإن كلا الجانبين محاصران بمنطق سياسي يكافئ المواجهة أكثر من التسوية.
والمأساة هي أن الفلسطينيين والإسرائيليين العاديين يدفعون ثمن هذا المأزق. تنهار البنية التحتية المدنية في غزة مرة أخرى، حيث تعمل المستشفيات بالوقود المتناقص والملاجئ مكتظة بما يتجاوز طاقتها. وأدى التوقف المؤقت للمساعدات الإنسانية إلى إثارة المخاوف من المجاعة والمرض. وعلى الجانب الإسرائيلي، لا تزال التجمعات السكانية القريبة من الحدود تحت تهديد مستمر بإطلاق الصواريخ، وحياتهم معلقة بين صفارات الإنذار ولحظات قصيرة من الهدوء. لقد وعدت خطة غزة بالإغاثة، ولكن بالنسبة لأولئك الذين يعيشون تحت القصف المتجدد، فإن الأمر يبدو وكأنه وهم قاس.
وبالنظر إلى المستقبل، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن لخطة غزة أن تستمر من دون تغييرات عميقة في البيئة السياسية وتوازن الثقة. السيناريو الأكثر تفاؤلاً هو ذلك الذي يقرر فيه الجانبان، المنهكان بسبب سنوات من الدمار المتبادل، التعامل مع إطار القاهرة باعتباره ضرورة عملية وليس نموذجاً للسلام. وهذا يتطلب أن تسمح إسرائيل بإعادة البناء الهادف من دون استخدام المخاوف الأمنية باعتبارها حق النقض الدائم، كما يتطلب قبول حماس لهدنة ممتدة من دون تحويلها إلى فرصة لإعادة التسلح. كما سيتطلب ذلك من الجهات الفاعلة الدولية، وخاصة الولايات المتحدة، إعادة المشاركة ليس فقط كمانحين أو مراقبين، بل كضامنين للامتثال.
ومع ذلك، فإن التوقعات الأكثر واقعية تبدو قاتمة. وقد أدت الخروقات المتكررة لوقف إطلاق النار إلى تآكل الثقة في جدوى الخطة. كل ضربة جديدة، كل صاروخ انتقامي، يدفع الطرفين بعيداً عن الطاولة. ومن الناحية السياسية، فقد تزعم إسرائيل قريباً أن حماس أثبتت عجزها عن الالتزام بأي هدنة، وهو ما يبرر وجودها العسكري لفترة طويلة في محيط غزة. وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تضاعف حماس من خطابها بشأن المقاومة، وتصور خطة غزة على أنها مخطط أجنبي لإضعاف سيطرتها. وسوف يجد مؤيدو الخطة في القاهرة وبروكسل أنفسهم يدافعون عن إطار عمل لا يؤمن به أي من الفاعلين الرئيسيين.
وهذه هي مفارقة بناء السلام في غزة، فكلما أصبحت الخطط أكثر تفصيلاً، كلما قل توافقها مع الحقائق على الأرض. وتميل الدبلوماسية الدولية إلى التعامل مع غزة باعتبارها أزمة إنسانية يتعين إدارتها، وليس صراعاً سياسياً يتعين حله. ولكن ما دامت القضية الأساسية، وهي العلاقة التي لم يتم حلها بين إسرائيل وحماس، دون معالجة، فإن أي قدر من تمويل إعادة الإعمار أو مراقبة وقف إطلاق النار لن يؤدي إلى هدوء دائم. إن خطة غزة قد تعيد بناء الطرق والمدارس، لكنها لن تتمكن من إعادة بناء الثقة حيثما لا تكون موجودة.
في الوقت الحالي، يبدو أن دورة وقف إطلاق النار والانتقام ستستمر، حيث تؤدي كل جولة إلى تآكل ما تبقى من أمل ضئيل. لقد حولت الضربات الأخيرة وثيقة سلام أخرى إلى رماد، وذكّرت العالم بأن الاستقرار في غزة لا يمكن صياغته في قاعات المؤتمرات بينما تتساقط القنابل على شوارعها. وبدون المساءلة والتعاطف والدبلوماسية المستدامة، سيظل مستقبل غزة وإسرائيل حبيس التكرار، وسلام متخيل على الورق، وحرب تعيش على أرض الواقع.
رأي: إعادة بناء غزة، تقويض فلسطين؟
الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.