إن شهر سبتمبر/أيلول هو شهر الإثارة في العديد من أنحاء العالم: يبدأ الأطفال مدارس جديدة، ويفتحون دفاتر ملاحظات جديدة، ويحملون حقائبهم المدرسية، ويحتفلون بفرحة “العودة إلى المدرسة”. بالنسبة لجميع الأطفال، يعتبر التعليم حجر الزاوية في حقوقهم، والحكومات وكذلك المؤسسات الدولية تكرر شعار “التعليم لكل طفل”. ومع ذلك، وسط هذا الخطاب العالمي وبداية موسم جديد، يتكشف واقع مختلف تماما في غزة.
بالنسبة للأطفال الفلسطينيين، لا يعني شهر سبتمبر “العودة إلى المدرسة”، بل يعني بقسوة “العودة إلى الموت”. إن حقهم الأساسي – الحق في الحياة – يُنتزع منهم كل يوم في ظل القنابل والصراعات. وفقًا لليونيسف، قُتل أكثر من 13000 طفل في غزة وأصيب أكثر من 25000 آخرين منذ أكتوبر 2023. وفي كل يوم، يفقد 28 طفلًا في المتوسط حياتهم – أي ما يعادل تدمير فصل دراسي كامل يوميًا. بالنسبة للبعض، يُحرمون من هذا الحق حتى قبل ولادتهم، ويُجردون منهم وهم لا يزالون في الرحم. وفي الوقت نفسه، يُمنع الوصول إلى الغذاء الأساسي، مما يترك الأطفال يموتون من الجوع، مع تزايد أعداد الذين يموتون جوعا يوما بعد يوم. نشاهد أطفالًا فلسطينيين يتم تصويرهم وهم يذرفون الدموع عند خطوط توزيع المساعدات، وهم يمسكون بالحاويات الفارغة.
وبالنسبة لهؤلاء الأطفال، فإن حقهم في الصحة محاصر أيضًا بين الحصار والحدود المغلقة. فالمستشفيات تُقصف، والأدوية نادرة، والأمر الأكثر مأساوية هو مقتل العاملين في مجال الصحة أنفسهم. أكثر من 80% من المرافق الصحية في غزة إما غير عاملة أو متضررة بشدة، مما يترك مليون طفل دون إمكانية الحصول على الرعاية الطبية بشكل موثوق. في مثل هذه الظروف، حتى ذكر الحق في التعليم يصبح مستحيلاً. المدارس تحولت إلى أنقاض، والملاعب تحولت إلى أكوام من الحطام، والطفولة تجري في ظل الدبابات. وقد تعرض ما يقرب من 88% من مدارس غزة للضرر أو الدمار، كما حُرم ما لا يقل عن 625,000 طفل من التعليم الرسمي لعدة أشهر. تفيد تقارير اليونيسف أن أكثر من نصف مليون طفل قد قضوا الآن أكثر من عام دون الوصول إلى التعلم في الفصول الدراسية.
اقرأ: الانتهاكات الإسرائيلية خلال قطف الزيتون: حرب على الأرض والهوية الفلسطينية
لقد تم الإعلان عن حق الحماية لكل طفل في جميع أنحاء العالم، إلا أن المؤسسات الدولية تظل صامتة في وجه الدمار الذي يلحق بغزة. إن نفس الهيئات التي تعلن أن حقوق الأطفال عالمية تصمت عندما يتعلق الأمر بالأطفال الفلسطينيين. وهذا الصمت لا يهدد غزة فحسب، بل مستقبل الأطفال في كل مكان. لأنه عندما يتم تطبيق الحقوق بشكل انتقائي، فإنها لا تعود “عالمية”، وتفقد مصداقيتها.
في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1989، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية حقوق الطفل، ووعدت بحقوق عالمية لجميع الأطفال: في الحياة، والحماية، والتعليم، والصحة. على الورق، كل الأطفال متساوون. ولكن في غزة، حيث يُقتل أو يُصاب العشرات من الأطفال كل يوم، فإن المطالبة بالعالمية تتحول إلى شعار فارغ.
وعندما اندلعت الحرب في أوكرانيا، تحرك المجتمع الدولي على الفور. وتم فتح الأموال، وإعداد المدارس للاجئين، وأبقت وسائل الإعلام هذه القضية في مركز الاهتمام لأسابيع. لكن في فلسطين، يتم تجاهل نفس الطفولة ونفس الحقوق. ويثبت هذا الصمت أن حقوق الأطفال تعمل بشكل مختلف تبعا للجغرافيا.
وليست الدول أو المؤسسات الدولية وحدها هي التي تظل صامتة. وتشترك الأوساط الأكاديمية أيضاً في هذا المعيار المزدوج. وفي حين تم بسرعة إصدار أعداد خاصة وحلقات نقاش ومقالات عن الحرب في أوكرانيا، فإن الخسائر في صفوف الأطفال الفلسطينيين كثيراً ما يتم التغاضي عنها. وحتى الباحثين العاملين في مجال حقوق الطفل يترددون في ذكر فلسطين. هذا الصمت الأكاديمي يعيد إنتاج حدود السياسة ويزيد من إفراغ ادعاء العالمية. يُظهر مثل هذا الصمت في الأوساط الأكاديمية أن “العلم” نفسه وقع في فخ هيمنة الأجندات السياسية.
إذا تم تجاهل الأطفال الفلسطينيين، فإن أساس حقوق الأطفال – أي العالمية – سينهار وينهار ويصبح مجرد خطاب أجوف. لا يمكن أن يسمى الحق حقًا إلا عندما يتم تطبيقه بالتساوي على جميع الأطفال. وعندما يتم تنفيذه بشكل انتقائي وفقا للجغرافيا أو السياسة أو المصالح الاستراتيجية، فإنه يتوقف عن كونه حقا ويصبح امتيازا هشا. وهذه الانتقائية لا تترك الأطفال الفلسطينيين فحسب، بل جميع الأطفال في العالم دون أمن. إن انهيار العالمية يعني أنه في الصراعات أو الأزمات المستقبلية، سيُترك الأطفال في كل مكان دون الضمانات الدولية التي يعتمدون عليها. وبمجرد أن تبدأ الثقة في التآكل، لن تكون هناك حدود: فنفس المؤسسات التي تظل صامتة في فلسطين اليوم قد تتجاهل حقوق الأطفال الآخرين غدًا.
اقرأ: لماذا ابتزاز إسرائيل للمساعدات الإنسانية يكشف الضعف والخوف
ولهذا السبب فإن الصمت بشأن فلسطين ليس مجرد قضية إقليمية، بل هو تهديد عالمي. وما دامت المؤسسات الدولية التي تدعي الدفاع عن حقوق الأطفال صامتة، فإن القيم الإنسانية المشتركة تتآكل. ومع تحول العالمية إلى انتقائية، تتآكل الثقة أيضًا؛ المعاهدات والإعلانات والحملات تفقد مصداقيتها. وهذا ليس مجرد خيار سياسي، بل إنه جرح دائم في ضمير الإنسانية.
وما يجب علينا فعله اليوم هو كسر جدار الصمت، ورفع أصواتنا، والنضال حتى تصبح الحقوق عالمية حقًا. وقد حذرت اليونيسف نفسها من أن أكثر من نصف مليون شخص في غزة محاصرون في ظروف المجاعة، ويواجه الأطفال أعلى خطر المجاعة. إن هذا النضال ليس مجرد حملة مؤقتة أو دعوة عابرة للتضامن، بل هو السبيل الوحيد للبشرية لتأمين مستقبلها. فعندما يتم وضع حقوق أطفال غزة على الرف بهدوء، فهذا يعني أن أطفالاً آخرين قد يتقاسمون نفس المصير غداً في جزء آخر من العالم.
كل هذا يثير سؤالاً غير مريح: هل حقوق الأطفال عالمية حقاً، أم أن مكان ميلاد الطفل هو الذي يحدد حقه في الحياة والتعليم واللعب؟ إذا كانت الحقوق تحددها الجغرافيا، فإنها لم تعد حقوقا، بل امتيازات.
الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.
