تُعد تركيا مركزًا هامًا للاكتشافات الأثرية التي تلقي الضوء على تاريخ البشرية، وأحدث هذه الاكتشافات جاء من موقع جوبيكلي تبه (Göbeklitepe) في جنوب شرق البلاد. هذا الموقع، الذي يعود تاريخه إلى أكثر من 11,000 عام، يُغير فهمنا لكيفية انتقال المجتمعات البشرية من حياة الصيد وجمع الثمار إلى الاستقرار والزراعة. الاكتشافات الجديدة، التي كشفت عنها تركيا مؤخرًا، تقدم رؤى فريدة حول الطقوس الجنائزية والتعبير الرمزي لدى المجتمعات النيوليثية.
جوبيكلي تبه: نافذة على فجر الحضارة
يقع جوبيكلي تبه على هضبة تطل على السهول الخصبة لما يُعرف غالبًا بـ “مهد الحضارات”. هذا الموقع، المُدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، أصبح بفضل الاكتشافات المتتالية، محور اهتمام عالم الآثار. تُظهر الحفريات المستمرة أن البشر في تلك الفترة الزمنية القديمة كانوا أكثر وعيًا وقدرة على التنظيم الاجتماعي والإنتاج الثقافي مما كان يُعتقد سابقًا.
اكتشافات حديثة تُعيد كتابة التاريخ
لم تقتصر الاكتشافات الحديثة على جوبيكلي تبه وحده، بل شملت أيضًا موقع كارهان تبه (Karahantepe) القريب. من بين القطع الأثرية التي تم الكشف عنها مؤخرًا تمثال يجسد ملامح شخص متوفى، وهو اكتشاف فريد من نوعه يعكس الطقوس الجنائزية والتعبير الرمزي لدى المجتمعات النيوليثية. بالإضافة إلى ذلك، تم العثور على مجموعة متنوعة من التماثيل البشرية والحيوانية، والمنحوتات، والأواني، والأطباق، والقلائد، والخرز، بما في ذلك قطعة على شكل إنسان.
مشروع التلال الحجرية: نظرة شاملة على المواقع النيوليثية
أطلقت تركيا على هذه المواقع اسم “مشروع التلال الحجرية”، وهو مشروع شامل يضم 12 موقعًا نيوليثيًا في مقاطعة شانلي أورفا يعود تاريخها إلى 9500 قبل الميلاد. يهدف هذا المشروع إلى فهم أعمق للحياة في تلك الحقبة، وكيف تطورت المجتمعات البشرية. يُعد جوبيكلي تبه و كارهان تبه من بين أهم هذه المواقع، حيث يضمّان أقدم الهياكل المعروفة التي كانت تستخدم في التجمعات والطقوس الاحتفالية.
الهياكل المعمارية الفريدة في جوبيكلي تبه
تتميز المواقع الأثرية بهياكل بيضاوية ضخمة يصل قطرها إلى 28 مترًا، محاطة بأعمدة حجرية جيرية على شكل حرف “T”. يُعتقد أن هذه الأعمدة تمثل البشر، بينما تحمل بعضها نقوشًا لحيوانات مختلفة. هذه النقوش والمنحوتات تقدم لنا لمحة عن عالمهم الرمزي ومعتقداتهم. إن دقة هذه المنحوتات ومهارة الحرفيين الذين قاموا بها تثير الدهشة، وتؤكد على مستوى الوعي والتقدم الذي وصل إليه الإنسان في تلك الفترة.
تحدي المفاهيم السائدة حول الاستقرار والزراعة
حتى وقت قريب، كان يُفترض أن الحياة المستقرة بدأت مع ظهور الزراعة وتربية الحيوانات. جوبيكلي تبه و المواقع المرتبطة به تقدم دليلًا على أن هذا ليس صحيحًا بالضرورة. تشير الاكتشافات إلى أن هذه المجتمعات كانت لا تزال تعتمد على الصيد وجمع الثمار، ولكنها في الوقت نفسه بدأت في الاستقرار وتكوين تجمعات دائمة. هذا الاكتشاف يغير فهمنا لتسلسل الأحداث في تاريخ البشرية، ويطرح أسئلة جديدة حول الدوافع التي أدت إلى الاستقرار والتحول إلى المجتمعات الزراعية. إن فهم هذه المرحلة الانتقالية أمر بالغ الأهمية لفهم تطور الحضارة الإنسانية.
السياحة الأثرية والاعتراف العالمي بأهمية جوبيكلي تبه
من المتوقع أن يجذب جوبيكلي تبه حوالي 800,000 زائر هذا العام، مما يعكس الاعتراف المتزايد بأهمية هذا الموقع على المستوى العالمي. تستثمر الحكومة التركية في تطوير البنية التحتية السياحية حول الموقع، لتسهيل وصول الزوار وتوفير تجربة ممتعة وغنية بالمعلومات. بالإضافة إلى ذلك، يتم العمل على حماية الموقع والمحافظة عليه للأجيال القادمة. إن السياحة الأثرية لا تساهم فقط في الاقتصاد المحلي، بل تساعد أيضًا في نشر الوعي بأهمية التراث الثقافي الإنساني.
في الختام، تُعد الاكتشافات في جوبيكلي تبه و كارهان تبه بمثابة ثورة في فهمنا لتاريخ البشرية. فهي تقدم لنا أدلة ملموسة على أن المجتمعات البشرية في العصر النيوليثي كانت أكثر تعقيدًا وتقدمًا مما كنا نتصور. إن هذه المواقع ليست مجرد آثار قديمة، بل هي نوافذ تطل على فجر الحضارة، وتساعدنا على فهم جذورنا وهويتنا. ندعوكم لزيارة هذه المواقع المذهلة واستكشاف كنوز الماضي بأنفسكم، ومتابعة آخر المستجدات في مجال الآثار في تركيا و الحضارات القديمة و التراث العالمي.
