إن شوارع غزة مسكونة بأصداء المعارك، حيث تترك كل انفجار أو رصاصة علامة دائمة على البنية الأساسية للمدينة وكذلك قلوب وعقول سكانها. إن الشباب الذين تيتموا بسبب العنف هم من بين الأكثر تضرراً؛ فبعد أن فقدوا والديهم، فإنهم يطورون نظرة مميزة للحياة والمقاومة. وبفضل مزيج قوي من الحزن والغضب والرغبة العميقة في الانتقام، فإن هذه النفوس الشابة، المثقلة بالخسارة والرغبة في العدالة، جاهزة لتصبح قادة ومحاربي المستقبل. يجب أن تكون فترة النمو فترة تفاؤل بدلاً من الخوف، وهذا هو الوقت الذي يجب أن يلعب فيه الأطفال ويلتقون بأصدقاء جدد ويبنون ذكريات وهم يستعدون للعطلات. لسوء الحظ، فإن الكثير من الأطفال في جميع أنحاء العالم، وخاصة أولئك في قطاع غزة، محرومون من هذا. وفقًا لجيمس إلدر، المتحدث العالمي باسم صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف): “غزة هي المكان الأكثر خطورة في العالم بالنسبة للأطفال”.

لقد كان للصراع الإسرائيلي الفلسطيني تأثير عميق على حياة شباب غزة، حيث غرس فيهم شعورًا بعدم اليقين المستمر وشكل وجهات نظرهم للعالم منذ سن مبكرة. يواجه هؤلاء الشباب، الذين نشأوا في بيئة تتسم بالعنف المستمر، العديد من الصعوبات، مثل الفرص التعليمية المحدودة، وعدم كفاية الوصول إلى الرعاية الصحية والمخاطر المستمرة على سلامتهم البدنية والعقلية. إن الأطفال الذين ينشأون في جو تسود فيه هذه الحرب الإيديولوجية، يتأثرون بشكل كبير بقصص المقاومة. لقد شهد العديد من هؤلاء الأطفال فقدان الأصدقاء والعائلات أمام أعينهم بسبب العنف، مما تركهم يعانون من صدمة دائمة وشعور بالمقاومة الجماعية. ووفقًا للنمط، فإن الأطفال الذين ينشأون في مثل هذه البيئة من العنف والحرمان هم أكثر عرضة للتطرف.

اقرأ: مقتل 31 شخصا في هجوم إسرائيلي على مدرسة في غزة تؤوي نازحين فلسطينيين

عندما يتم تدمير المنازل والمدارس والمجتمعات، فإن الأيديولوجيات المتطرفة تنتشر بسهولة أكبر. وعلى الرغم من أن مخيمات اللاجئين صُممت لتكون بمثابة مساكن مؤقتة، إلا أن العديد من الناس يعيشون هناك الآن بشكل دائم بسبب الظروف المعيشية القاسية والتهديدات المستمرة، والتي تعمل على تسريع عملية التطرف. تعمل هذه المخيمات في كثير من الأحيان كأرض خصبة للمقاتلين في المستقبل حيث ينجذب الشباب الذين عانوا من الخسارة والعنف إلى الأيديولوجيات التي تدعو إلى العدالة والانتقام. على سبيل المثال، أظهرت الصراعات السابقة مثل حرب غزة في عامي 2008 و2009 وحرب عام 2014 أن عددًا كبيرًا من قادة حماس ومقاتليها نشأوا في مخيمات اللاجئين، وأن تربيتهم في ظل الشدائد والخسارة كانت بمثابة حافز لتفانيهم في حركة المقاومة.

على سبيل المثال، ولد يحيى السنوار، أحد مؤسسي الجناح العسكري لحركة حماس، كتائب عز الدين القسام، في مخيم خان يونس للاجئين في غزة عام 1962. نشأ في ظروف المخيم القاسية، والتي شكلت بشكل كبير نظرته للعالم وأفعاله المستقبلية. وبالمثل، ولد محمد ضيف، قائد كتائب القسام، أيضًا في مخيم خان يونس للاجئين في غزة. نشأ زعيم آخر للجناح العسكري لحركة حماس، مروان عيسى، في مخيم النصيرات للاجئين في وسط قطاع غزة. وبالمثل، ولد أيمن نوفل ونشأ في مخيم البريج للاجئين في وسط غزة. أثرت تجاربه في المخيم على قراره بالانضمام إلى المقاومة وأن يصبح قائدًا كبيرًا في كتائب القسام. ولد إبراهيم مقادمة أيضًا ونشأ في مخيم للاجئين في غزة يُعرف باسم جباليا. أثرت ظروف المخيم بشكل كبير على نظرته للعالم، وانضم إلى حركة المقاومة.

إن أحد الأمور المشتركة بين هؤلاء الأفراد هو أنهم جميعًا نزحوا في السنوات الأولى من حياتهم وفقدوا أحباءهم أمام أعينهم. لقد حُرموا من ضروريات الحياة ولم يتمكنوا من الحصول على تعليم جيد. وعندما بلغوا سن المراهقة، حملوا جميعًا الأسلحة ونظموا مجموعات مسلحة لمحاربة إسرائيل، مما يوضح كيف أن الحياة في مخيمات اللاجئين قد تشجع على المشاركة في حركات المقاومة. لقد شكلت تجاربهم في النزوح والصعوبات والصراع مساراتهم بشكل كبير، حيث قادتهم من مخيمات اللاجئين إلى أدوار بارزة في المنظمات المسلحة.

مقابلة: أندريس توريس، الفائز بجائزة الباسك العالمية للطهي لعام 2024: “الأطفال، مستقبلنا، يموتون جوعاً”

إن الرغبة في الانتقام تعمل كحافز وتحمل أهمية شخصية لهؤلاء الأطفال الأيتام في غزة. إنها وسيلة لتكريم ذكرى أحبائهم الذين فقدوهم. إنهم يصبحون محاربين متحمسين مستعدين لتحمل معاناة كبيرة لتحقيق أهدافهم بسبب ارتباطهم الشخصي بالصراع. في غزة، حيث تقطع الصراعات التعليم الرسمي في كثير من الأحيان، يسعى عدد كبير من الأطفال إلى أنواع أخرى من التعليم. يتم تقديم التعليم الإيديولوجي من قبل جماعات المقاومة والمجتمعات المحلية، التي تؤكد على قيمة الدفاع عن حقوق المرء وقيم المقاومة. يتعلم أيتام غزة عن تاريخ صراعهم وتضحيات أولئك الذين سبقوهم، واستراتيجيات المقاومة. هذه المعلومات، إلى جانب تجاربهم الخاصة، تعزز تفانيهم في القضية.

وعلاوة على ذلك، فإن هذا الاتجاه يتعزز بفضل الشبكات الأسرية والاجتماعية في غزة. ففي ثقافة حيث عانت كل أسرة تقريباً من نوع ما من الخسارة، فإن الحزن والعزيمة التي تملأ الأجواء تعمل على إضفاء طابع طبيعي على الانتقام، بل وتعززه أيضاً. وكثيراً ما يعمل قدامى المحاربين في الحروب السابقة، وكبار السن، وزعماء المجتمع، كمرشدين وقدوات للجيل الأصغر سناً، فيواصلون حركة المقاومة.

إن المجتمع الدولي ينظر إلى شباب غزة باعتبارهم ضحايا، متجاهلاً تصميم هؤلاء الشباب. فهم مساهمون نشطون في تقرير مصيرهم وليسوا مجرد مستفيدين سلبيين من المساعدات. إن تحولهم من أطفال مهجورين إلى قادة للمقاومة دليل على صمودهم وعزيمة شعب غزة التي لا تتزعزع. ومن المتوقع أن تتكرر دورة العنف مع تقدم هؤلاء الأطفال في السن. ومن المرجح أن يعملوا على إنشاء منظمات قتالية جديدة أو إعادة هيكلة المنظمات القائمة بالفعل، مدفوعين بإحساسهم بالخسارة والانتقام. ونتيجة لهذا فإن دورة العنف لا تنتهي أبداً، حيث يحمل كل جيل جراح الماضي ويدفعه نفس التعطش للانتقام. إن أي فرصة للسلام الدائم تضيع بسبب هذه الحرب المستمرة، التي تبقي جراح الماضي مفتوحة. وفي غياب حل طويل الأمد وشامل، فإن دورة العنف هذه لن تتوقف. إن حالة العنف المستمرة لن تؤدي إلا إلى زيادة عدد الأيتام، ومقدار الخسارة والتعطش للانتقام.

إن الأسباب الجذرية لهذا الصراع لابد وأن تعالج من أجل توفير الاستقرار على المدى الطويل، والمصالحة، والتخفيف الفوري للآلام. وسوف ينشأ أطفال غزة في مجتمع حيث يشكل طريق المقاومة الوسيلة الأكثر عملية للتغلب على الألم والخسائر، إلى أن يتم وضع مثل هذه الحلول موضع التنفيذ.

اقرأ: أكثر من 190 ألف فلسطيني نزحوا خلال 4 أيام: الأمم المتحدة

الآراء الواردة في هذه المقالة تعود للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لموقع ميدل إيست مونيتور.

شاركها.