وفي الجيزة القريبة من العاصمة المصرية، يهرع الناس نحو شاحنة كبيرة تقوم بتوزيع طرود غذائية تحمل شعار “تحيا مصر”. ويتكرر المشهد في كثير من الأحياء والمحافظات الأخرى. وتشرف على هذه التوزيعات جهات أمنية وحكومية، وتحتفل بها، بل وتلتقط صورًا لمتلقي المساعدات من مبادرة أبواب الخير، بدعوى وقوف مصر مع مواطنيها الفقراء والمحتاجين.
وإلى جانب أبواب الخير، هناك مبادرات حكومية أخرى مثل معارض أهلاً برمضان، وكلنا واحد، وبطاقة خيرية، وكتفاً بكتف، وغطاء صحي، ويداً بيد. وتأتي هذه المبادرات بمثابة محاولات للتخفيف من أعباء الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد والغلاء الجنوني للأسعار، وسد الفجوة المتزايدة في المنظومة الخيرية، بعد فرض قيود جدية من قبل الحكومة.
وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ معدل الفقر في مصر عام 2020 29.7 في المائة. لكن دراسة مستقلة أجرتها مستشارة الوكالة، هبة الليثي، توقعت ارتفاع مستوى الفقر إلى 35.7 في المائة في العام الماضي.
يقرأ: مصر تحصل على صفقة مع صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار مع تدهور الاقتصاد
ويخضع العمل الخيري في مصر لقيود أمنية منذ الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين في انقلاب 2013، واعتقال الآلاف من المسؤولين وأنصار الحركة. كان لدى جماعة الإخوان شبكة واسعة من المؤسسات الاجتماعية التي تقدم الخدمات الأساسية، بما في ذلك الجمعيات الخيرية والمستشفيات والمدارس ودور الأيتام في جميع أنحاء البلاد.
بحجة تجفيف “منابع الإرهاب”، استولى نظام عبد الفتاح السيسي المصري على 1133 جمعية خيرية و120 مدرسة و39 مستشفى و118 شركة وأموال تخص 1589 شخصا بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين التي وصنفه النظام جماعة إرهابية في ديسمبر/كانون الأول 2013. إضافة إلى ذلك، اضطهدت السلطات المصرية أكبر وأقدم الهيئات الخيرية الإسلامية وهي الجمعية الشرعية لتعاون أهل الكتاب والسنة المحمدية، والتي تعمل منذ أكثر من 100 عام. ولها أكثر من 1200 فرع في جميع أنحاء البلاد.
وأصبح العمل الخيري أكثر صعوبة بعد الضربة المدمرة التي تعرض لها في مايو/أيار 2017، عندما صادق الرئيس السيسي على قانون الجمعيات الأهلية، الذي يحظر تلقي التبرعات أو التصرف فيها إلا بعد موافقة الجهات الحكومية المعنية. وقد تعرض هذا القانون لانتقادات واسعة النطاق من قبل منظمات حقوق الإنسان، مما اضطرها إلى تعديله.
إلا أن قانون تنظيم مزاولة العمل المدني الجديد رقم 149 لسنة 2019 كان له قيود أخرى، منها فرض غرامات باهظة تراوحت وقتها بين 100 ألف ومليون جنيه مصري (حوالي 6000 إلى 60 ألف دولار) على من يخالف مواده . كما دعت إلى مصادرة جميع الأموال التي تم الحصول عليها دون موافقة الحكومة.
وامتد قمع النظام لمنظمات المجتمع المدني إلى المؤسسات الخيرية.
وبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، قامت السلطات المصرية بحل أكثر من ألفي جمعية خيرية وصادرت أصولها بتهمة ارتباطها بجماعة الإخوان.
وتقول وزارة التضامن الاجتماعي إن هناك نحو 52 ألف جمعية ومنظمة مجتمع مدني في مصر، منها 32924 جمعية استوفت كافة المستندات اللازمة. وتعمل معظم هذه المنظمات في مجالات المساعدة الاجتماعية، والخدمات الصحية، والتعليم، ورعاية الطفل والأمومة، ورعاية الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. لكن جهود الإخوان، وخاصة جهود الجمعية الشرعية، كانت أكثر تنظيما وانتشارا وتأثيرا، قبل أن يتم تفكيكها من قبل أجهزة الأمن المصرية.
وأخبرني مصدر إخواني مطلع أنه قبل الانقلاب، كانت عائدات التبرعات في محافظة واحدة فقط تصل إلى 21 مليون جنيه مصري سنويًا (أكثر من 3 ملايين دولار في ذلك الوقت)، مما مكن الحركة من توسيع شبكة خدماتها. وكانت تقوم بترميم المنازل المعرضة لخطر الانهيار، وتوفير إمدادات المياه لمن ليس لديهم مياه عذبة، ومساعدة الفتيات الأيتام على الزواج، وتوزيع الأموال على المحتاجين، ورعاية الأسر الفقيرة شهريا.
وأضاف، شريطة عدم الكشف عن هويته، أنه تم توزيع طرود غذائية رمضانية تحتوي على اللحوم وغيرها من المواد الأساسية، وتوفير وجبات الإفطار والافطار، وكذلك ملابس العيد، على آلاف الأسر في كل محافظة، عبر تطبيق “الآن”. لجان البر، أحد الهياكل الإدارية للإخوان. وحددت اللجان المحتاجين وقدمت المساعدات في أكثر من 4000 قرية في جميع أنحاء مصر.
وبعد استهداف الأجهزة الأمنية لقيادات الحركة لأكثر من 10 سنوات، نجح نظام السيسي في إقصاء جماعة الإخوان، بل وحتى إقصائها عن العمل الخيري في مصر. وكان الهدف هو الحد من نفوذها الاجتماعي المتنامي، لكن ذلك خلق فراغا كبيرا، نما مع التدهور المستمر في الأوضاع الاقتصادية بسبب التعويم الخامس للجنيه المصري منذ عام 2016. ووصل سعر صرف الدولار رسميا إلى 50 جنيها، مرتفعا من سبعة جنيهات فقط، وهو السعر الذي كان عليه عندما كان الراحل الدكتور محمد مرسي رئيسا لمصر في 2012/2013.
رأي: الفساد في مصر – حراسه لصوصه!
ويبدو أن نظام السيسي ربما حاول ملء هذا الفراغ من خلال إطلاق برامج ومبادرات خيرية ونشر قوافل المساعدات وإقامة معارض للسلع المخفضة، لكن أداء الحكومة كان في معظمه موسميا وعشوائيا. علاوة على ذلك، لم تصل المساعدات إلى من هم في أمس الحاجة إليها، خاصة مع عادة تصوير الأشخاص أثناء استلام طرود المساعدات على الهواء مباشرة.
وفي السياق نفسه، تدخلت المؤسسة العسكرية في محاولة لملء حذاء الإخوان الخيري، من خلال نشر آليات الجيش ومنافذ البيع المحملة بالمواد الغذائية بأسعار مخفضة، فضلا عن حشد 33 هيئة ومنظمة مجتمع مدني تحت مظلة المجلس الوطني. تحالف العمل المدني والتنموي، مؤسسة حكومية. ويشير معارضو ذلك إلى أن مستشفيات الإخوان والجمعية الشرعية كانت متاحة لجميع المصريين، في حين أن المستشفيات التي يديرها الجيش لا تزال مفتوحة فقط أمام العسكريين وعائلاتهم.
وقال لي أحد الباحثين السياسيين إن الاختلاف الجوهري في النهج الذي يتبعه الإسلاميون ونظام السيسي تجاه الأعمال الخيرية يتعلق بميل الإسلاميين إلى توزيع المساعدات سرا أو تحت جنح الظلام، مراعاة للحساسيات الدينية. ويتم ذلك من باب الإخلاص وابتغاء مرضاة الله، على عكس ما يحدث الآن حيث يتم توزيع المساعدات على الهواء مباشرة، مما يحرج المتلقين الذين هم في أمس الحاجة إلى الدعم ولكنهم لا يفضلون التصوير أثناء تلقي الدعم من أي جهة. حزب.
ونظم التحالف الوطني للعمل التنموي المدني احتفالا كتفا بكتف في استاد القاهرة الدولي في 17 مارس من العام الماضي، بهدف توزيع أربعة ملايين سلة غذائية بحضور السيسي. وأخبرني المصدر نفسه الذي لم يذكر اسمه أن هناك علاقة واضحة الآن بين العمل الخيري في مصر والدعاية السياسية، وربما يصل هذا إلى حد الاستفادة من آلام الفقراء. وهذا ما يبرر حنين الناس إلى ذروة حكم الإخوان المسلمين وعهد الرئيس الراحل حسني مبارك، الذي أعطى الإسلاميين فرصة لتوسيع عملهم الخيري، حتى لو كان على الأرجح للتغطية على فشل حكومته في أداء دورها. في المجتمع المدني.
ولا توجد بيانات رسمية عن حجم التمويل الخيري في مصر.
وقدرت دراسة حكومية صادرة عن مجلس الإعلام التابع لمجلس الوزراء، في يناير/كانون الثاني 2017، بنحو 4.5 مليار جنيه (نحو 91 مليون دولار). وفي الوقت نفسه، قدر مشروع حلول السياسات البديلة، وهو مشروع بحثي تابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة، التبرعات في عام 2022 بحوالي 6.7 مليار جنيه إسترليني (حوالي 135 مليون دولار). وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن إجمالي التبرعات المصرية يصل إلى 20 مليار جنيه سنويا (حوالي 404 ملايين دولار).
المثير والمثير للقلق في نفس الوقت هو أن الجهات الأمنية والسيادية تدخلت في مجال جمع التبرعات، لضبط وتوجيه التبرعات نحو الصناديق الخاصة مثل تحيا مصر، التي تخضع لإشراف السيسي. وذلك من خلال حشد العديد من الجمعيات الخيرية المعروفة مثل جمعية الرسالة، الأورمان، مصر الخير، بنك الطعام، بيت الزكاة والصدقات، مستشفى 57357، تحت راية التحالف الوطني. تديرها الحكومة، ولا تخضع للتدقيق، ولا أحد يعرف كم ميزانيتها، أو النسبة التي تقتطعها من تبرعات الجمعيات التابعة لها لصالح صندوق تحيا مصر.
وبحسب الباحث الحقوقي حسام المصري، فإن جيوب الطبقات المتوسطة والفقيرة يتم استنزافها أيضًا من خلال الحملات الإعلانية الضخمة التي تدعو إلى التبرع على مدار العام، والتي تشتد خلال شهر رمضان. لقد ولدت “أعمال التبرعات” المعروفة على نطاق واسع.
فرض المركزية على التبرعات الخيرية المصرية ومحاولة توظيفها سياسيا بما يصقل صورة النظام، إضافة إلى السيطرة على الأموال باعتبارها موردا ماليا ضخما يمكن للحكومة الاستيلاء عليه في أي وقت، أدى إلى تفاقم مأزق العمل الخيري. . وأصبح هذا الأمر الآن عالقاً بقوة بين قيود النظام والتسييس.
رأي: مستقبل الإخوان المسلمين في مصر بعد قمة السيسي وأردوغان
الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.