إن ابتعاد النظام السوري عن الحرب الإسرائيلية في غزة أمر مفهوم، بسبب برودة العلاقات بينه وبين حماس، وعدم جدوى الدعم العسكري للمقاومة بسبب المسافة الجغرافية.
لكن نأي النظام السوري بنفسه عن المجزرة الإسرائيلية بحق حزب الله ومؤيديه يطرح علامات استفهام كثيرة لدى من لم يدقق في سياسة النظام على مدى العقود الخمسة الماضية.
منذ عهد حافظ الأسد، اعتمد النظام السوري سياسة فن الممكن، واللعب على الهامش المتاح إقليمياً ودولياً، بإحساس سياسي رفيع المستوى بالمخاطر. وهو ما يجعلها تتراجع وتلجأ إلى استراتيجيتها المعتادة القائمة على اجتياز المراحل على أمل حدوث تغييرات لصالحها.
لم يكن النظام السوري بحاجة إلى إنذار إسرائيلي عبر وسيط عربي بعد عملية طوفان الأقصى، ولا إلى إنذار روسي مباشر بالامتناع عن المشاركة في هذه الحرب وعدم تقديم المساعدة للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، إذ أدرك أن إسرائيل والمقاومة اللبنانية سيكون العالم مختلفاً عما كان عليه قبل 7 أكتوبر 2023، وأن إسرائيل ستشن هجوماً عسكرياً شرساً على كل بقعة جغرافية مشاركة في الحرب.
الرأي: الحقيقة هناك، وراء كل الأكاذيب
وكان هذا التوجه واضحاً تماماً بالنسبة لدمشق التي قدمت خطاباً إعلامياً باهتاً بشأن الحرب. ثم أخرجت قواتها من المواقع التي تمركزت فيها القوات الموالية لإيران. كما أن الأسد لم يحضر تشييع الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي، في رسالة سياسية واضحة ليس لطهران فحسب، بل للعواصم المعنية الأخرى، مما يدل على أن هناك خلافا بين دمشق وطهران بشأن ما يحدث. في المنطقة.
ولا يعني ذلك صحة ما نشرته وسائل إعلام وما قاله مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي حول محاولات إخراج سوريا من المعادلات الإقليمية عبر مختلف الأساليب، في إشارة إلى محاولات إغراء النظام السوري برفع العقوبات المفروضة عليه وإنهاء العقوبات. عزلتها الدولية.
الموقف السوري لا علاقة له على الإطلاق بالإغراءات العربية، فهذه الإغراءات موجودة منذ عام 2011، ولا تزال موجودة، ولا يستطيع النظام أن ينأى بنفسه عن إيران بسبب الارتباط الوجودي بين النظامين الذي يتجاوز حدود المصالح الطبيعية. بين الدول.
العلاقة السورية – الإيرانية هي علاقة فوق استراتيجية تقوم على تداخل وترابط قوي على كافة المستويات، ولا يمكن للنظام السوري المجازفة بالتخلي عن إيران من أجل دول عربية قد تتغير مصالحها على المدى المتوسط وتنقلب عليها.
في المقابل، يدرك النظام أن المطالب العربية لن تكتفي بالابتعاد عن طهران فحسب، بل ستتبعها مطالب أخرى تتعلق بالوضع السياسي الداخلي. وهو الأمر الذي لن يتنازل عنه النظام مطلقاً، بعد النجاحات العسكرية التي حققها خلال السنوات الماضية بدعم إيراني وروسي.
وعليه، فإن الحياد السوري لا يمكن تفسيره انطلاقاً من الإغراءات العربية، بل انطلاقاً من وضعه الداخلي، إذ لم يعد النظام اليوم كما كان قبل عام 2011. فهو لا يملك سوى قوة عسكرية ضعيفة، وترسانة أسلحة بدائية مقارنة بقدرات إسرائيل. واقتصاد متعثر وسكان بشر لا يلبي متطلبات الحرب، ناهيك عن خسارته لأسلحته الكيماوية.
علاوة على ذلك، فإن أراضيها مقسمة إلى ثلاث مناطق، ولديها قوتان معاديتان (تركيا والولايات المتحدة)، ووضع اجتماعي مرجح للانفجار، ومن أسبابه احتجاجات السويداء.
وضمن هذه المعادلة المعقدة، ليس لدى النظام السوري سوى أهداف داخلية بحتة، تتمثل أولاً في الحفاظ على السلطة واستمراريتها في ظل الزلزال الجيوسياسي، وعدم إضعاف ما تبقى من القوة العسكرية التي يدخرها لمعركته الكبرى، أي: استعادة السيطرة على المناطق التي سيطرت عليها المعارضة وقوات سوريا الديمقراطية.
رأي: إسرائيل تواصل زيادة التجارة مع العالم العربي والإسلامي
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، نأى النظام بنفسه عن الحرب، لكن تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل ومحاولة طهران استغلال الأراضي السورية، دفع النظام، بدعم روسي، إلى اتخاذ خطوات عملية، أولها إغلاق المعبر. ومراكز التجمع البشري التي أنشأتها إيران لجلب المقاتلين إلى لبنان؛ ثانياً، الامتناع عن نقل الأسلحة إلى حزب الله، وترك الأمر للقوات الإيرانية فقط، وثالثاً، حصر حركة حزب الله والميليشيات الموالية لإيران في هضبة الجولان ومحافظات ريف دمشق وصحراء حمص.
وتمنع هذه السياسة تعرض النظام لأي هجمات إسرائيلية قد تؤدي إلى انهيار قوته، وهو ما قد تستغله قوى المعارضة وقوات سوريا الديمقراطية.
كما تتيح لها هذه السياسة التقرب مما يسمى “الدول العربية المعتدلة” التي لها مصلحة في القضاء على المقاومة في غزة ولبنان. هذه هي الدول التي يعتمد عليها النظام السوري، ليس فقط لإعادة تعزيز حضوره العربي، بل الأهم من ذلك، لتكون عاملاً قوياً في إقناع الولايات المتحدة بتغيير نهجها تجاه سوريا. ولعل الموقف المحايد للنظام من الحرب الإسرائيلية سيكون أحد النقاط الأساسية التي تستخدمها هذه الدول للضغط على واشنطن.
ولن يكون مفاجئاً أن يتحول النظام السوري، بعد انتهاء الحرب، إلى عائق وحاجز منيع أمام إيران في إرسال الأسلحة إلى حزب الله.
لقد انتهى «محور المقاومة» عملياً، وبدأ النظام السوري في قبول الاعتدال العربي الذي حاربه لعقود من الزمن، ما دام يضمن بقاءه في السلطة. لقد سقط القناع، وسقطت الثوابت الوطنية لصالح البراغماتية الغارقة في الانتهازية.
رأي: انهيار أمريكا يبدأ من الداخل: فوز ترامب أخر سقوط أمريكا
ظهرت هذه المقالة لأول مرة في عربي21 في 9 نوفمبر 2024.
الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.
