لا شيء هادئ بين جنوب الليطاني وشمال كريات شمونة، فدخان الحرائق والقذائف يغطي الميدان، ما يشهد حركة مستعرة من الجانبين. تنتظر أطراف كثيرة ساعة الصفر، التي من المتوقع أن تمتد حرارتها إلى ما هو أبعد من حدود المعركة الحالية، بكثافة نارية أكبر بكثير، وأنماط قتالية قد تكون الأولى من نوعها في المنطقة، بعد أكثر من ثمانية أشهر إعداد معدات المعركة والبنوك المستهدفة.
وعلى الجانب اللبناني، يتمنى حزب الله أن يجد مخرجاً للنزول عن الشجرة، كأن تفرض الإدارة الأميركية صيغة متوازنة من الاتفاق بين الطرفين المتصارعين، ليعلن انتصاره في اليوم التالي. ورغم إصراره على ربط وقف استهدافه للمناطق في شمال فلسطين بوقف الحرب على غزة، إلا أن حزب الله فوجئ بطول أمد الحرب، فظروفه الداخلية والإقليمية، وقائمة أولوياته، لا تسمح له بخوض حرب في الوقت الحاضر مع إسرائيل. والحرب الشاملة لها حسابات مختلفة بالنسبة لحزب الله، وأهمها مشكلة الموارد اللازمة لحرب قد تستمر طويلاً. صحيح أن الحزب خزن كميات كبيرة من الصواريخ على مدى السنوات الماضية، لكن التجربة التاريخية للحروب تثبت أن الطرفين لا يستطيعان استخدام كل أسلحتهما، نظراً لاختلاف ظروف المعركة وحساباتها وتقديراتها وتوقعاتها النظرية، خاصة في ظل افتقار حزب الله إلى العمق الاستراتيجي، الأمر الذي يجعل فعاليته تنحصر في مساحة صغيرة تقتصر على جنوب وشرق لبنان.
وتبدو حكومة نتنياهو المتطرفة في حالة ارتباك شديد، حيث نجح حزب الله، باستخدام تكتيكاته وحربه النفسية، في تقويض ثقة قادة الجيش الإسرائيلي بإمكانية تحقيق نصر واضح في الحرب الشاملة ضده، وذلك في ظل إرهاق الجيش وخسائره الفادحة في غزة، وعجزه عن تحقيق نصر واضح ضد الفصائل الفلسطينية. كما يدخل في الحسابات الإسرائيلية حجم الخسائر الاقتصادية المتوقعة نتيجة التدمير الذي سيلحقه حزب الله بالمنشآت والإنشاءات الاستراتيجية في مناطق شمال فلسطين. وإذا ما أضيفت هذه الخسائر إلى الخسائر الناجمة عن الحرب على غزة، فإن هذا يعني أن إسرائيل ستواجه واقعاً اقتصادياً قاتماً قد يصعب ترميمه لسنوات قادمة.
يقرأ: طائرات إسرائيلية تقصف بلدة في جنوب لبنان بقنابل الفوسفور الأبيض وسط توترات
فهل هذه العوائق تردع طرفي الحرب عن خوضها؟ وبعد حرب 2006، رجحت التوقعات اندلاع حرب أخرى بين الطرفين من جديد، وتم بناء السيناريوهات المحتملة لهذا الصراع. ونتيجة لتكرار التوترات بين الطرفين وتراجع الطرفين عن خوض الحرب، ساد اعتقاد بأن حرب 2006 هي الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله، خاصة في ظل انشغال الحزب بالحروب الإقليمية. وخاصة في سوريا، وبدرجة أقل في اليمن، وبالنظر إلى أولويات إيران وتوجهاتها الاستراتيجية وتفضيلاتها الجيوسياسية. فهل تنتهي الأزمة بين الطرفين دون الحاجة إلى خوض حرب؟
المعطيات حول هذا الموضوع مختلفة هذه المرة عن أي وقت مضى، فإسرائيل لديها الآن مشكلة مع سكان الشمال، الذين أصبحوا على قناعة بأن ما فعلته حماس في غلاف غزة سيتكرر من قبل حزب الله، ولن يمر وقت طويل قبل أن يحدث هذا، ولذلك فهم يعتقدون أن حياتهم لن تكون مستقرة في الشمال في ظل شعورهم بالتهديد الوجودي المستمر، ولن يعودوا إلى الشمال إلا إذا وجدت حكوماتهم حلاً جذريًا لهم، أي إنهاء خطر حزب الله نهائيًا، إما بإبعاده عن مناطقهم، أو إيجاد آليات جديدة للسيطرة على الوضع على الجانبين، أو بالقضاء عليه تمامًا.
ومؤخراً، فشلت كل المبادرات التي قادتها أطراف خارجية، مثل المبادرة الفرنسية، فضلاً عن الضغط الأميركي عبر مبعوثها عاموس هوشستين، في طمأنة الإسرائيليين بسبب رفض حزب الله مقترحات تطالبه بالابتعاد طوعاً عن الحدود والإخلاء. مناطق جنوب الليطاني وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي ينص على ضرورة تراجع الحزب مسافة معينة عن الحدود. بالإضافة إلى ذلك، ووفقاً للمعايير الإسرائيلية، فإن حزب الله تجاوز قواعد الاشتباك المسموح بها والممكنة بكل الوسائل، وبالتالي فإن التراجع عن الحرب ضده يعني الموافقة على قواعد الاشتباك الجديدة، وهو أمر تتفق عليه إسرائيل والحكومة. والجيش فلا تقبل. يد إيران أصبحت أيضاً طويلة، وبالتالي فإن الاكتفاء بهذا القدر من الحرب يعني أن إيران أصبحت قادرة على تقرير مستقبل إسرائيل، وهو أمر لن تقبله حتى الولايات المتحدة. وبينما حذرت إدارة جو بايدن من حرب بين إسرائيل وحزب الله، فإن الحرب خلقت واقعاً يصعب تجاهله، لتأثيرها على موازين القوى وفي أوزان الأطراف في المنطقة برمتها. وسيكون لذلك تداعيات على حالة توزيع السلطات في النظام الإقليمي.
حزب الله، وكذلك إيران، يعلمان جيداً أن لهذه الحرب جوانب جيوسياسية خطيرة، إذ تنتظر دوائر إقليمية ودولية نتيجتها لتشكيل نظام إقليمي جديد، لن يكون لإيران وأذرعها دور مؤثر وفعال فيه. وإذا خسر حزب الله الحرب فإن الخسارة ستمتد إلى كل أذرع إيران في المنطقة، وسيجد نظام بشار الأسد فرصة للهروب من النفوذ الإيراني والانضمام إلى القوى الإقليمية النافذة. بل وربما تنضم إلى بقية الدول التي قامت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، لحاجتها إلى إعادة التأهيل والتمويل.
تبدو الظروف حالياً مهيأة لاندلاع الحرب بين حزب الله وإسرائيل أكثر من أي وقت مضى، ويبقى السؤال كيف ستتم إدارتها، من حيث مداها وحدودها، لا سيما وأن الطرفين يعانيان من مشاكل في الموارد والموارد. اللوجستية، والمخاوف من النتائج الكارثية التي تتوقعها تقديراتهم وحساباتهم.
يقرأ: غانتس يصدر تهديداً مستتراً بجر لبنان إلى “الظلام التام”
ظهر هذا المقال باللغة العربية في العربي في 25 يونيو 2024.
الآراء الواردة في هذه المقالة تعود للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لموقع ميدل إيست مونيتور.