تشهد شركات الاستشارات تحولاً جذرياً في مهارات موظفيها، مدفوعاً بالتقدم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي. لم يعد يكفِ الاعتماد على الخبرات الاستشارية التقليدية وعروض الشرائح، بل أصبح التركيز على مشاريع التحول التي تستند إلى الذكاء الاصطناعي وتمتد لعدة سنوات. هذا التحول يدفع الشركات الكبرى مثل Boston Consulting Group و McKinsey و PwC إلى إعادة تعريف الوظائف وتوسيع نطاق التوظيف ليشمل متخصصين في التكنولوجيا.
وفقاً لتقارير من داخل الصناعة، تتجه الشركات إلى البحث عن مزيج من “الخبراء العامين والتقنيين” بدلاً من “الاستشاريين التقليديين” البحتين. هذا التغيير يعكس حاجة متزايدة إلى بناء وتنفيذ وصيانة أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهو ما يتطلب مهارات متخصصة تتجاوز مهارات البحث والاستشارة التقليدية. بدأت الشركات بالفعل في الاستثمار بكثافة في إعادة تأهيل وتدريب موظفيها الحاليين.
تزايد الطلب على المتخصصين في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي
تتغير طبيعة عمل الاستشاريين بشكل ملحوظ. مشاريع الاستشارة التقليدية التي تعتمد على تقديم النصائح والإرشادات، تحل محلها مشاريع بناء وتنفيذ وصيانة الأدوات والحلول التقنية للشركات، مما يزيد من أهمية الخبرات التكنولوجية. تُظهر بيانات التوظيف هذا التوجه بوضوح، حيث قامت الشركات الرائدة بتوسيع نطاق توظيف المتخصصين في التكنولوجيا بشكل كبير.
أفادت Accenture في تقريرها السنوي الأخير أنها أضافت ما يقرب من 40,000 متخصص في الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات خلال العامين الماضيين، ليصبحوا الآن حوالي 10٪ من إجمالي عدد موظفيها على مستوى العالم. وبالمثل، أضافت EY حوالي 61,000 متخصص في التكنولوجيا منذ عام 2023. وعلى صعيد آخر، يعتبر دور “مهندس الذكاء الاصطناعي” هو الأسرع نمواً في McKinsey بين الوظائف غير المبتدئة، يليه مدير المشتريات، وعالم البيانات، ومهندس البرمجيات.
في Boston Consulting Group، يشهد الطلب على مهندسي البرمجيات ومطوري الواجهات الأمامية ومطوري Python أكبر زيادة في التوظيف على مستوى الموظفين الجدد. وقد وسّعت BCG جهودها في توظيف المتخصصين في التكنولوجيا منذ إطلاق قسم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي التابع لها، BCG X، في أواخر عام 2022. صرح Sylvain Duranton، الرئيس العالمي لـ BCG X، بأنهم “يبنون شركة تقنية داخل شركة استشارية”. وأضاف أن مهمتهم الأساسية هي مساعدة الشركات على التحول، لكن التكنولوجيا أصبحت حاسمة للغاية في هذا التحول، مما استدعى امتلاكهم القدرات اللازمة بأنفسهم.
الجمع بين الخبرات الاستشارية والتقنية
يبدو أن الشركات مثل McKinsey و BCG تبحث عن موظفين يتمتعون بقدرة فريدة على الانتقال بين عالم الاستشارات وعالم التكنولوجيا. فهم لا يريدون مجرد مهندسين أو استشاريين، بل أفراداً قادرين على الجمع بين المهارات والمعرفة في كلا المجالين. هذا التوجه يتطلب إعادة تعريف معايير التوظيف والتركيز على المرشحين الذين يظهرون استعداداً للتعلم المستمر.
صرح Alex Singla، شريك أول في McKinsey وقائد قسم الذكاء الاصطناعي التابع لها، QuantumBlack، بأنهم يبحثون عن “أفراد يتمتعون بقدرات مضاعفة – أي أن يكونوا متميزين في مجال معين، ولكن أيضاً قادرين على التفوق في ثلاثة أو أربعة مجالات أخرى”. وأشار إلى أن العديد من المرشحين يفضلون الأدوار الهجينة التي تجمع بين الجوانب التقنية والاستشارية، بدلاً من التخصص الكامل في أحد المجالين.
QuantumBlack، بفريق يضم 1700 شخص، تقود جميع مبادرات الذكاء الاصطناعي في McKinsey، والتي تمثل الآن 40٪ من عمل الشركة. ومع ذلك، لا يقتصر التوظيف التقني في McKinsey على هذا الفريق وحده، حيث يوجد حوالي 3500 شخص يعملون على بناء التكنولوجيا الداخلية للشركة، بالإضافة إلى 4000 إلى 5000 مستشار يقودون العمل التقني من الجانب التجاري، على الرغم من أنهم قد لا يتمتعون بخبرات تقنية متعمقة.
تطوير المهارات هو الأولوية
شهد قطاع الاستشارات خلال فترة الجائحة زيادة كبيرة في الطلب، مما دفع الشركات إلى التوسع في التوظيف بشكل مكثف. ومع تراجع هذا الزخم وبطء الطلب على الخدمات الاستشارية التقليدية، وجدت العديد من الشركات نفسها في حالة من الازدحام الوظيفي، مما أدى إلى عمليات تسريح وتقليل في التوظيف. وسط هذه التغيرات، بدأ النموذج الهرمي التقليدي القائم على الاعتماد على أعداد كبيرة من الاستشاريين المبتدئين في التغير، حيث أصبح التركيز على الأدوار التي تقدم قيمة مضافة أكبر.
لقد أصبح الاستثمار في تطوير مهارات الموظفين الحاليين ضرورة ملحة في ظل التطورات المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي. صرح Saurabh Sarbaliya، رئيس قسم الذكاء الاصطناعي في PwC، بأن الشركات تدرك الآن أهمية الذكاء الاصطناعي، وأن الطلب على الأشخاص القادرين على تطبيق الذكاء الاصطناعي في المؤسسات سيزداد حتماً، ولكن هناك نقص في الخبراء المتخصصين، مما يجعل تطوير المهارات الداخلية أمراً لا غنى عنه.
تعتمد KPMG أيضاً على تطوير المهارات الداخلية كمكون رئيسي في استراتيجيتها، حيث أن Sam Gloede، القائد العالمي للذكاء الاصطناعي الموثوق به في الشركة، صرح بأنهم “يركزون بشكل أساسي على تطوير المهارات والمعرفة لدى الموظفين الحاليين بدلاً من التوظيف المكثف”.
وفي أكتوبر الماضي، نظمت EY فعالية تعليمية استمرت أسبوعين بهدف تعليم الموظفين كيفية بناء وكلاء الذكاء الاصطناعي لاستخدامهم في عملهم اليومي. كما أطلقت الشركة دورات تدريبية لمدة 15 ساعة تغطي موضوعات مثل هندسة الذكاء الاصطناعي، والذكاء الاصطناعي التطبيقي، والامتثال للذكاء الاصطناعي. وقد حصل ما يقرب من 100,000 موظف – أي حوالي ربع القوى العاملة – على “شارة الذكاء الاصطناعي” الرقمية بعد إكمال إحدى هذه الدورات. وأشار Simon Brown، القائد العالمي للتطوير والتعلم في EY، إلى أن هذه المبادرة كانت “طريقة رائعة وواسعة النطاق لبناء معرفة عميقة في مجال الذكاء الاصطناعي”.
أهمية المهارات الشخصية في عصر الذكاء الاصطناعي
على الرغم من تزايد الطلب على المتخصصين في التكنولوجيا، إلا أن المهارات الشخصية، مثل التواصل والتعاون وحل المشكلات، لا تزال ذات أهمية كبيرة. يرى العديد من القادة أن هذه المهارات ستصبح أكثر قيمة مع قدرة الذكاء الاصطناعي على أداء المهام الكمية المتخصصة. وكما ذكر Niale Cleobury، قائد فريق العمل في مجال الذكاء الاصطناعي في KPMG، فإن “الموقف والسلوك” هما أهم ما يبحثون عنه عند التوظيف، بالإضافة إلى القدرة على التعلم والتكيف.
من المتوقع أن تستمر شركات الاستشارات في إعادة تقييم استراتيجياتها في مجال الموارد البشرية وتطوير مهارات موظفيها لمواكبة التطورات المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي. سيظل التركيز على إيجاد وتطوير الأفراد القادرين على الجمع بين الخبرات التقنية والاستشارية، بالإضافة إلى المهارات الشخصية الضرورية للنجاح في بيئة العمل المتغيرة. وستراقب الصناعة عن كثب كيف تتطور هذه الاستراتيجيات وكيف تؤثر على جودة الخدمات الاستشارية المقدمة للعملاء.
