مسابقة الأغنية الأوروبية، أو يوروفيجن كما يعرفها الكثيرون، تواجه أزمة حادة تهدد بتقويض روح الوحدة والتفاؤل التي لطالما مثلتها. انسحاب أربع دول – إسبانيا وهولندا وأيرلندا وسلوفينيا – من مسابقة 2026 في فيينا، بالإضافة إلى دراسة دول أخرى مثل أيسلندا لمقاطعة الحدث، يضع مستقبل هذه المنافسة الموسمية العريقة على المحك. هذه الأزمة تأتي على خلفية التوترات المتصاعدة حول مشاركة إسرائيل في ظل الحرب الدائرة في غزة.
صراع سياسي يهدد يوروفيجن
تأسست مسابقة يوروفيجن عام 1956 بهدف تعزيز التفاهم والوحدة بين الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. على مر العقود، تطورت المسابقة لتصبح منصة ثقافية ضخمة، تجمع بين عشرات الدول المتنافسة على لقب الأغنية الأفضل في القارة. ورغم أن القواعد الرسمية تحظر إدخال السياسة في العروض والأغاني، إلا أن الأحداث العالمية غالباً ما تفرض نفسها على المسابقة.
ففي عام 2022، تم استبعاد روسيا بعد غزوها لأوكرانيا. والآن، عادت التوترات للظهور مجدداً بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، والحملة العسكرية الإسرائيلية اللاحقة في غزة. شهدت النسختان الأخيرتان من يوروفيجن مظاهرات داعمة للفلسطينيين داخل وخارج أماكن العرض، مما دفع المنظمين إلى تشديد الرقابة على أي رموز أو أعلام سياسية.
محاولات التسوية والانسحابات المتتالية
سعى اتحاد البث الأوروبي (EBU)، المسؤول عن تنظيم يوروفيجن، إلى إيجاد حل وسط يرضي جميع الأطراف. قام الاتحاد بتعديل قواعد التصويت والحملات الانتخابية استجابةً لاتهامات بالتلاعب بالتصويت لصالح إسرائيل. ومع ذلك، لم يتم التصويت على مسألة مشاركة إسرائيل نفسها، حيث أشار الاتحاد إلى أن “أغلبية كبيرة من الأعضاء” يرون أن المسابقة يجب أن تستمر كما هو مخطط لها مع تطبيق الضمانات الجديدة.
لكن هذا الحل لم يرضِ بعض الدول. مباشرة بعد قرار الاتحاد، أعلنت محطات البث في إسبانيا وهولندا وأيرلندا وسلوفينيا انسحابها من مسابقة 2026. وبررت RTVE (إسبانيا) قرارها بالقول إن الوضع في غزة، بالإضافة إلى “استخدام إسرائيل للمسابقة لأغراض سياسية”، يجعل من الصعب الحفاظ على حياد المسابقة. أما RTÉ (أيرلندا) فقد اعتبرت أن المشاركة “غير معقولة” في ظل الخسائر الفادحة في الأرواح في غزة.
ردود فعل متباينة ودعم مستمر
في المقابل، رحبت بعض الدول الأخرى بقرار إبقاء إسرائيل في المسابقة، بما في ذلك هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) والنرويجية (NRK). وأكدت هيئة الإذاعة البريطانية دعمها للقرار الجماعي لأعضاء اتحاد البث الأوروبي، مشيرة إلى أهمية إنفاذ قواعد الاتحاد والحفاظ على الشمولية. كما أعرب وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو عن معارضته لمقاطعة إسرائيل ثقافياً.
إسرائيل نفسها رحبت بقرار المنظمين، معرباً عن أملها في أن تظل المسابقة “منصة للثقافة والموسيقى والصداقة بين الأمم”. وعبر بعض الإسرائيليين عن سعادتهم بمشاركة بلادهم، لكنهم اعتبروا أن النقاش الدائر حول هذا الموضوع غير عادل.
تأثير الانسحابات على مستقبل يوروفيجن
انسحاب الدول المقاطعة يعني عدم إرسال أي أغنية وتمثيل لها في مسابقة 2026، وعدم بث المسابقة على قنواتها التلفزيونية. من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى انخفاض في نسبة المشاهدة، حيث تجذب يوروفيجن عادةً أكثر من 150 مليون مشاهد حول العالم.
بالإضافة إلى ذلك، تمثل هذه المقاطعة ضربة مالية لاتحاد البث الأوروبي، الذي يعتمد بشكل كبير على مساهمات الدول المشاركة. فانسحاب إسبانيا، وهي إحدى الدول الخمس الكبرى المساهمة في المسابقة، يمثل خسارة كبيرة.
ومع ذلك، عودة بعض الدول الأخرى مثل بلغاريا ومولدوفا ورومانيا إلى المسابقة بعد غياب قد تخفف من حدة الخسائر. ويرى خبراء يوروفيجن أن أرقام المشاهدة ستكون حاسمة في تحديد مستقبل المسابقة، فإذا انخفضت بشكل كبير، فقد يدق ذلك ناقوس الخطر.
مستقبل يوروفيجن: تحديات وفرص
على الرغم من التحديات الحالية، يظل الكثيرون متفائلين بشأن مستقبل يوروفيجن. فالمسابقة أثبتت مراراً وتكراراً قدرتها على التكيف مع الظروف المتغيرة والحفاظ على شعبيتها. ومع ذلك، يجب على المنظمين إيجاد طريقة لمعالجة المخاوف المشروعة للدول المقاطعة، وضمان أن تظل المسابقة منصة للوحدة والتفاؤل، بعيداً عن التوترات السياسية.
إن الحفاظ على حياد يوروفيجن وتجنب تحويلها إلى ساحة للصراعات السياسية هو مفتاح استمرار نجاحها في المستقبل. وسيظل المشجعون والمشاركون على حد سواء يراقبون عن كثب التطورات القادمة، آملين أن تتمكن المسابقة من تجاوز هذه الأزمة والخروج منها أقوى من ذي قبل.
