يشهد المشهد الإعلامي في الولايات المتحدة الأمريكية تطورات متلاحقة، تتصدرها في الآونة الأخيرة سلسلة من الدعاوى القضائية والانتقادات المتبادلة بين الرئيس السابق دونالد ترامب وعدد من المؤسسات الإخبارية الكبرى. هذه المواجهات القانونية، والتي تتضمن مطالبات بتعويضات بمليارات الدولارات، تعكس توترًا عميقًا وتاريخًا من الخلافات بين ترامب ووسائل الإعلام، وتثير تساؤلات حول حدود حرية الصحافة ومسؤولية التشهير. وتعتبر معارك ترامب مع الإعلام ليست جديدة، بل هي امتداد لنهج اتبعه خلال فترة رئاسته، لكنها تتصاعد الآن بشكل ملحوظ مع اقتراب الانتخابات الرئاسية لعام 2024.
دعوى قضائية ضد بي بي سي بتهمة التشهير
آخر فصول هذه المعارك كان رفع دعوى قضائية ضد هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بقيمة 10 مليارات دولار. تتهم الدعوى بي بي سي بتحريف تصريحات ترامب خلال تغطيتها لأحداث 6 يناير 2021، زاعمةً أن الهيئة ربطت أجزاءً منفصلة من خطابه لخلق انطباع مضلل. يرى ترامب أن هذا التحريف يمثل محاولة متعمدة للتدخل في الانتخابات الرئاسية القادمة، وتشويه صورته أمام الناخبين.
على الرغم من اعتذار بي بي سي السابق لترامب عن بعض الأخطاء في تحرير الخطاب، إلا أنها رفضت بشكل قاطع الاتهامات بالتشهير. وتؤكد الهيئة التزامها بالمعايير الصحفية المهنية، وأنها تسعى دائمًا لتقديم تغطية دقيقة وموضوعية للأحداث.
سلسلة من الدعاوى القضائية والانتقادات
لم تقتصر مواجهات ترامب على بي بي سي وحدها، بل امتدت لتشمل مؤسسات إخبارية أمريكية بارزة. ففي شهر سبتمبر الماضي، رفع ترامب دعوى قضائية ضد صحيفة نيويورك تايمز، مطالبًا بتعويض بقيمة 15 مليار دولار بتهمة التشهير. كما رفع دعوى مماثلة ضد صحيفة وول ستريت جورنال وقطب الإعلام روبرت مردوخ، بقيمة 10 مليارات دولار، على خلفية تقرير حول علاقاته بـ جيفري ابستين.
بالإضافة إلى ذلك، شهدت الفترة الماضية انتقادات حادة من ترامب لبرامج حوارية ساخرة مثل “جيمي كيميل لايف!” و “العرض المتأخر مع ستيفن كولبيرت”، مما أدى إلى تعليق عرض كيميل لفترة وجيزة، وإلغاء برنامج كولبيرت في مايو الماضي.
خفض التمويل عن PBS وNPR
لم يقتصر الأمر على الدعاوى القضائية والانتقادات، بل امتد ليشمل إجراءات حكومية. ففي مايو 2024، أصدر ترامب أمرًا تنفيذيًا يهدف إلى خفض الدعم العام لشبكتي PBS وNPR، بدعوى وجود “تحيز” في تقاريرهم. ردت NPR وعدد من محطاتها المحلية برفع دعوى قضائية ضد ترامب، بحجة أن هذا الأمر ينتهك حرية التعبير.
تسويات مالية مع شبكات تلفزيونية
شهدت هذه المعارك أيضًا بعض التسويات المالية. ففي ديسمبر 2024، وافقت شبكة ABC News على دفع 15 مليون دولار لمكتبة ترامب الرئاسية كجزء من تسوية دعوى تشهير، على خلفية تأكيد غير دقيق لأحد مذيعيها. كما وافقت شبكة CBS على دفع 16 مليون دولار لترامب لتسوية دعوى قضائية تتعلق بمقابلة أجريت مع نائبة الرئيس كامالا هاريس.
دوافع ترامب وراء هذه المعارك
تتعدد التفسيرات لدوافع ترامب وراء هذه المعارك الشرسة مع وسائل الإعلام. يرى البعض أنها محاولة لتكميم أفواه المنتقدين، وتشويه صورة المؤسسات الإخبارية التي يعتبرها معادية له. بينما يرى آخرون أنها استراتيجية سياسية تهدف إلى حشد الدعم الشعبي، من خلال تصويره على أنه ضحية “الأخبار الكاذبة” و “التضليل الإعلامي”.
التشهير هو محور رئيسي في هذه الدعاوى، حيث يسعى ترامب لإثبات أن المؤسسات الإخبارية نشرت معلومات كاذبة ومضللة، ألحقت به ضررًا معنويًا وماديًا. ومع ذلك، يواجه ترامب تحديات قانونية كبيرة في إثبات هذه الادعاءات، خاصةً وأن المعايير القانونية للتشهير تختلف من ولاية إلى أخرى، وتتطلب إثبات “النية” في نشر معلومات كاذبة.
مستقبل العلاقة بين ترامب والإعلام
من الصعب التنبؤ بمستقبل العلاقة بين ترامب ووسائل الإعلام. ومع ذلك، من الواضح أن هذه العلاقة ستظل متوترة ومليئة بالتحديات، خاصةً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية لعام 2024. من المتوقع أن يستمر ترامب في انتقاد المؤسسات الإخبارية التي يعتبرها معادية له، وربما يرفع المزيد من الدعاوى القضائية.
في المقابل، من المرجح أن تواصل وسائل الإعلام مراقبة ترامب، وكشف أي معلومات مضللة أو غير دقيقة. هذه المواجهة المستمرة بين ترامب والإعلام قد تؤثر على التغطية الإخبارية للانتخابات الرئاسية، وتزيد من حدة الاستقطاب السياسي في المجتمع الأمريكي. التغطية الإعلامية للانتخابات ستكون بالتأكيد تحت المجهر، مع توقعات بتصعيد في الخطاب من كلا الجانبين.
في الختام، تمثل معارك ترامب مع الإعلام فصلًا جديدًا في العلاقة المعقدة بين السياسيين ووسائل الإعلام، وتثير تساؤلات مهمة حول دور الصحافة في الديمقراطية، وحدود حرية التعبير، ومسؤولية التشهير. من المهم متابعة هذه التطورات عن كثب، وتحليلها بموضوعية، لفهم تأثيرها على المشهد السياسي والإعلامي في الولايات المتحدة.
