توفي الكاتب المسرحي البريطاني المرموق توم ستوبارد، آخر عمالقة المسرح الإنجليزي، عن عمر يناهز 88 عامًا. خبر رحيل ستوبارد، المعروف بذكائه اللغوي ومسرحياته المعقدة التي تتناول مواضيع فلسفية وتاريخية، صدم عالم الأدب والفن، وأثار موجة من الحزن والإشادة بإرثه الغني. فقد العالم مؤلفًا بارعًا ترك بصمة لا تُمحى على المسرح والسينما، ورحل عن عالمنا “بسلام” في منزله في دورست بجنوب غرب إنجلتيا، محاطًا بعائلته، حسبما أعلنت شركة United Agents.

من التشيك إلى قمة المسرح الإنجليزي: حياة توم ستوبارد

ولد توماس شتراوسلر، الذي اشتهر لاحقًا باسم توم ستوبارد، في عام 1937 في مدينة زلين، تشيكوسلوفاكيا (الآن جمهورية التشيك)، لعائلة يهودية. شهد ستوبارد في طفولته أحداثًا تاريخية مأساوية، حيث فرت عائلته من الغزو النازي عام 1939 إلى سنغافورة، ثم إلى الهند بعد تهديد القوات اليابانية. فقد والده في البحر أثناء محاولته الفرار من سنغافورة، وهو حدث ترك أثرًا عميقًا على حياته.

استقرت العائلة في بريطانيا بعد الحرب، حيث تبنى والده الجديد اسم ستوبارد. لم يلتحق ستوبارد بالجامعة، بل بدأ مسيرته المهنية كصحفي في بريستول، ثم انتقل إلى لندن كناقد مسرحي، وهي الخطوات التي صقلت رؤيته الفنية و عززت شغفه بالمسرح. هذه التجارب المبكرة شكلت خلفياته الثقافية المتنوعة التي ميزت أعماله اللاحقة، و ألهمته لاستكشاف الهوية والانتماء والذاكرة.

مسيرة توم ستوبارد المسرحية: إبداع لا يعرف الحدود

امتدت مسيرة توم ستوبارد المسرحية لأكثر من ستة عقود، قدم خلالها مجموعة متنوعة من الأعمال التي أثارت التفكير واستكشفت أعماق النفس البشرية. تميزت مسرحياته بالبراعة اللغوية، والتعقيد الهيكلي، والمزج بين الكوميديا والمأساة. من أبرز أعماله “Rosencrantz and Guildenstern Are Dead” (موت روزنكرانتز وجيلدنسترن) عام 1966، وهي إعادة تصور مبتكرة لمسرحية “هاملت” لشكسبير من منظور شخصيتين هامشيتين.

حصد ستوبارد العديد من الجوائز المرموقة عن أعماله، بما في ذلك خمس جوائز توني لأفضل مسرحية، وذلك عن الأعمال التالية: “Rosencrantz and Guildenstern Are Dead” (1968)، “The Real Thing” (الشيء الحقيقي) (1984)، “Jumpers” (1976)، “Arcadia” (أركاديا) (1993)، و”Leopoldstadt” (ليوبولدشتات) (2023). و تعكس هذه الجوائز التقدير النقدي والجماهيري الذي حظي به ستوبارد طوال مسيرته الفنية. كما أن مسرحياته غالبًا ما تتناول مواضيع معقدة مثل التاريخ، الفلسفة، والسياسة، وتقدمها بأسلوب شيق ومثير للتفكير.

من المسرح إلى السينما: موهبة متعددة الأوجه

لم يقتصر إبداع توم ستوبارد على المسرح، بل امتد ليشمل السينما. كتب سيناريوهات العديد من الأفلام الناجحة، من بينها الكوميديا السوداء “Brazil” (البرازيل) عام 1985، والدراما الحربية “Empire of the Sun” (إمبراطورية الشمس) عام 1987، و الفيلم الرومانسي التاريخي الشهير “Shakespeare in Love” (شكسبير في الحب) عام 1998، الذي فاز بجائزة الأوسكار لأفضل سيناريو أصلي (شارك فيها مع مارك نورمان).

وقد أظهر ستوبارد قدرة فريدة على الانتقال بين الوسائط الفنية المختلفة، وتقديم أعمال متميزة في كل منها. لم يكتفِ بذلك، بل قام أيضًا بترجمة العديد من الأعمال المسرحية من التشيكية إلى اللغة الإنجليزية، مما ساهم في تبادل الثقافات وتعزيز الحوار الفني. كما عمل بشكل سري كمدقق نصوص في هوليوود، وقام بتحسين الحوارات في أفلام مثل “Indiana Jones and the Last Crusade” و “Star Wars: Revenge of the Sith”.

إرث خالٍ وتقدير عالمي لـ توم ستوبارد

يترك توم ستوبارد وراءه إرثًا فنيًا غنيًا ومتنوعًا، سيظل يلهم الأجيال القادمة من الكتاب والمبدعين. لقد كان صوتًا فريدًا في الأدب الإنجليزي، تميز بالذكاء، والبصيرة، والقدرة على التعبير عن الأفكار المعقدة بأسلوب شيق ومؤثر. وصفه زملاؤه بأنه “عملاق المسرح الإنجليزي”، و”صديق عزيز”، و”إنسان مبدع”.

كما أشاد به الملك تشارلز الثالث، ووصفه بـ “صديق عزيز استخف بعبقريته”. وستقوم مسارح ويست إند في لندن بإطفاء أنوارها لمدة دقيقتين تكريمًا لذكراه، في دليل على التقدير الكبير الذي حظي به من قبل المجتمع المسرحي. سيظل توم ستوبارد حاضرًا في قلوب وعقول محبي المسرح والسينما، من خلال أعماله الخالدة التي ستستمر في إثارة التفكير، وإلهام الإبداع. و إن مسرحية “ليوبولدشتات” تعد شهادة مؤثرة على ارتباطه بذاكرة عائلته وتراثه، و تفتح الباب أمام فهم أعمق للهولوكوست و تداعياته.

شاركها.