في تطور يمس جوهر حرية الصحافة والدستور الأمريكي، تجدد الخلاف بين وكالة أسوشيتد برس وإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب أمام القضاء. القضية، التي بدأت بشرارة بسيطة تتعلق بتسمية منطقة جغرافية، سرعان ما اتخذت أبعادًا أوسع تتعلق بحقوق الصحفيين في الوصول إلى المعلومات وتقديمها للجمهور. وتدور رحى المعركة القانونية حول محاولة ترامب تقييد وصول صحفيي الوكالة إلى الأحداث الرسمية، كرد فعل على موقفهم من استخدام مصطلح “خليج أمريكا” بدلاً من “خليج المكسيك” وفقًا لتصحيحاتهم اللغوية. هذا الأمر يثير تساؤلات حاسمة حول حدود السلطة التنفيذية في التعامل مع وسائل الإعلام، والتداعيات المحتملة على التعديل الأول من الدستور الأمريكي الذي يكفل حرية التعبير والصحافة.
نزاع حول الوصول: جذور القضية وتصعيدها
بدأت الأزمة في العام الماضي عندما أعلن الرئيس ترامب عن رغبته في تغيير الاسم الجغرافي لـ “خليج المكسيك” إلى “خليج أمريكا”. هنا، فضلت وكالة أسوشيتد برس الاستمرار في استخدام الاسم التقليدي، “خليج المكسيك”، في تقاريرها، مع الإشارة إلى التغيير المقترح. ردًا على ذلك، قلصت إدارة ترامب بشكل ملحوظ وصول صحفيي الوكالة إلى الأحداث الهامة التي تُقام في نطاق ضيق داخل البيت الأبيض، مثل الاجتماعات في المكتب البيضاوي أو خلال الرحلات على متن الطائرة الرئاسية.
وهذا التقييد دفع وكالة أسوشيتد برس إلى رفع دعوى قضائية، معتبرةً أن تصرفات ترامب تمثل انتقامًا غير مبرر وتقييدًا لحرية الصحافة المكفولة دستوريًا. المحكمة الفيدرالية الابتدائية حكمت لصالح الوكالة، معتبرةً أن ترامب تصرف بشكل غير لائق. لكن هذا الحكم لم ينفذ بعد، حيث استأنفت إدارة ترامب القرار أمام محكمة الاستئناف الجزئية الأمريكية في واشنطن، مما أدى إلى استمرار النزاع القانوني.
حجج الطرفين أمام محكمة الاستئناف
في الجلسة التي عُقدت يوم الاثنين، قدم كلا الطرفين حججهما أمام لجنة من ثلاثة قضاة. إدارة ترامب دافعت عن حقها في تحديد من يحضر الأحداث الرسمية، خاصةً تلك التي تقام في مساحات محدودة. يرى فريق ترامب أن لديهم السلطة في مكافأة أو معاقبة المراسلين بناءً على تغطيتهم، وأن هذا حق سيادي لا يمكن المساس به. واعتبروا أن وكالة أسوشييتد برس تعتمد على “وضع الدولة المفضلة” بشكل دائم، وأن هذا ليس حقًا مكتسبًا.
في المقابل، أكدت وكالة أسوشيتد برس أن التقييد المفروض على وصولها يتعارض مع التعديل الأول للدستور، الذي يحمي حرية الصحافة. المحامي تشارلز توبين، الذي يمثل الوكالة، أشار إلى أنه في حالة تنظيم حدث ما على أساس “مجمع” للصحفيين، كما حدث في الاجتماعات الأخيرة مع ولي العهد السعودي وعمدة نيويورك المنتخب، لا يمكن للإدارة أن تمارس التمييز ضد مؤسسة إخبارية بناءً على وجهة نظرها الصحفية. وأضاف أن “التعديل الأول لا يتوقف عند باب المكتب البيضاوي”.
تساؤلات القضاة حول حدود السلطة الرئاسية
أبدى القضاة، وخاصةً القاضية نيومي راو، وهي من المعينين من قبل ترامب، شكوكهم حول إمكانية صياغة حكم يحد من سلطة الرئيس في هذا الشأن. وحددت التحدي الرئيسي: “كيف يمكننا أن نحدد ما هو الحدث ‘المجمع’ والحدث المخصص للصحفي الفردي؟” كما تساءلت عن إمكانية إصدار أمر قضائي يلزم الرئيس بدعوة صحفيين معينين، مشيرةً إلى أن القضاة يترددون عادةً في إصدار أوامر مباشرة ضد الرؤساء.
القاضي روبرت ويلكنز، المعين من قبل الرئيس باراك أوباما، طرح سؤالاً افتراضيًا أثار جدلاً: “هل يمكن للإدارة منع مجموعة من المواطنين من ولاية كانساس من القيام بجولة في البيت الأبيض إذا اكتشفوا أن أحدهم نشر انتقادات للرئيس على وسائل التواصل الاجتماعي؟”. اضاف ويلكنز قائلا: “الويل للشعب”.
هذا السؤال يسلط الضوء على المخاوف بشأن إمكانية استخدام سلطة الوصول لتقويض حرية التعبير وحماية الرئيس من النقد.
أهمية القضية وتداعياتها على حرية الصحافة
لا تقتصر أهمية هذه القضية على وكالة أسوشييتد برس وحدها. فقد قدمت ما يقرب من أربعين منظمة إعلامية، بما في ذلك قنوات إخبارية كبرى مثل فوكس نيوز، ووسائل إعلام مرموقة مثل صحيفة نيويورك تايمز وواشنطن بوست، مذكرات لدعم موقف الوكالة.
هذا الدعم الواسع يعكس القلق العميق بشأن أي محاولة لتقويض حرية الصحافة في الولايات المتحدة. كما تشير إلى أن القضية تمثل اختبارًا حاسمًا للتوازن بين سلطة الحكومة وحق الإعلام في مساءلة السلطة.
إن السماح للحكومة بالتحكم في الصحفيين الذين يغطون أخبارها، ووضع قيود على ما يمكنهم قوله أو كتابته، قد يشكل سابقة خطيرة تهدد الديمقراطية. فالصحافة الحرة هي حجر الزاوية في أي نظام ديمقراطي، وهي ضرورية لضمان حصول المواطنين على المعلومات التي يحتاجونها لاتخاذ قرارات مستنيرة.
الوضع الراهن وما بعده
حتى الآن، لم تصدر محكمة الاستئناف أي حكم نهائي في القضية. ومع ذلك، فإن النقاش الذي دار أمام المحكمة سلط الضوء على التعقيدات القانونية والسياسية المحيطة بقضية حرية الصحافة والوصول إلى المعلومات. من المتوقع أن يكون للحكم الصادر في هذه القضية تأثير كبير على العلاقة بين وسائل الإعلام والسلطة التنفيذية في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك، تكمن أهمية هذه القضية في أنها تتعلق أيضًا بمسألة الدقة الصحفية، حيث إن اعتماد وكالة أسوشيتد برس على مصطلحات محددة في دليلها الأسلوبي، مثل الإصرار على استخدام “خليج المكسيك”، يعكس التزامها بالمعايير المهنية واللغوية. هذا الالتزام، وفقًا لما ذكره المحرر التنفيذي للوكالة جولي بيس، هو ما يجب حمايته، لأنه في نهاية المطاف يتعلق بحق الجمهور في الحصول على معلومات دقيقة وموثوقة.
في الختام، تمثل هذه القضية اختبارًا حقيقيًا لمبادئ الحرية الديمقراطية وحقوق الصحفيين في الولايات المتحدة. الانتظار للبت النهائي في هذا الأمر يراقب فيه الكثيرون، إدراكًا منهم أن القرار سيشكل معالم المشهد الإعلامي في البلاد لسنوات قادمة.
