فيلم “الصندوق الأسود” (Black Box Diaries) يثير جدلاً واسعاً في اليابان حول الاعتداء الجنسي وصمة العار الاجتماعية
شهد فيلم “الصندوق الأسود” (Black Box Diaries)، الوثائقي الذي تقدمه الصحفية اليابانية شيوري إيتو، عرضاً واسعاً في الخارج وحصل على ترشيح لجائزة الأوسكار، قبل أن يعرض أخيراً في اليابان يوم الجمعة. الفيلم يروي قصة إيتو الشخصية في قضية الاعتداء الجنسي التي تعرضت لها، والصعوبات التي واجهتها في سعيها لتحقيق العدالة. هذا العرض المحلي المتأخر، والذي بدأ بعرض مسرحي واحد فقط، لم يكن بسبب نقص الاهتمام، بل بسبب نزاع قانوني معقد.
قضية شيوري إيتو: كسر حاجز الصمت حول الاعتداء الجنسي في اليابان
لطالما عانت اليابان من ثقافة الصمت حول قضايا الاعتداء الجنسي، حيث غالباً ما يتم وصم الضحايا وإسكاتهم. فيلم إيتو يمثل تحدياً مباشراً لهذه الثقافة، ويسلط الضوء على التحديات التي تواجهها النساء اللواتي يقدمن بلاغات عن هذه الجرائم. الفيلم، الذي يستمر لمدة 102 دقيقة، عرض في قاعة ممتلئة في مجمع تي جوي برينس شيناجاوا للسينما في طوكيو، معبرًا عن ارتياح إيتو لإمكانية مشاركة قصتها مع جمهورها في الوطن.
“كنت خائفة حتى الليلة الماضية مما إذا كان الفيلم سيُعرض أم لا”، صرحت إيتو لوكالة أسوشيتد برس بعد العرض الأول. وأضافت: “سبب صنع هذا الفيلم هو أنني أريد أن أتحدث عن هذه القضية بشكل علني في اليابان. لقد كان الأمر بمثابة رسالة حب صغيرة إلى اليابان، لذلك أنا سعيد جدًا لأن هذا اليوم جاء أخيرًا.” إيتو، التي أصبحت وجهًا لحركة #MeToo في اليابان، هي أول مخرجة يابانية يتم ترشيحها لجائزة الأوسكار في فئة الأفلام الوثائقية الطويلة.
تفاصيل الاعتداء في عام 2015: بداية رحلة طويلة
تعود أحداث القصة إلى عام 2015، عندما كانت إيتو متدربة صحفية وتسعى للحصول على وظيفة في تلفزيون TBS. خلال هذه الفترة، التقت بنوريوكي ياماغوتشي، وهو صحفي بارز في التلفزيون، والذي أصبح فيما بعد المتهم بالاعتداء عليها. في كتابها الذي يحمل عنوان “الصندوق الأسود” (Black Box)، والذي استوحي منه الفيلم، تصف إيتو كيف شعرت بالدوار أثناء العشاء مع ياماغوتشي وأغمي عليها في الحمام.
وتزعم إيتو أن ياماغوتشي استغل حالتها وأخذها إلى غرفته في الفندق واغتصبها بينما كانت فاقدة للوعي. وعندما استعادت وعيها وشعرت بالألم، طلبت منه التوقف، لكنه استمر في الاعتداء. تقدمت إيتو بشكوى جنائية إلى الشرطة، لكنها واجهت صعوبات في إقناعهم ببدء التحقيق. في النهاية، أسقط الادعاء القضية دون تقديم أي تفسير لها. في الفيلم، كشف محقق الشرطة لإيتو أن أمر الاعتقال تم إيقافه من قبل مسؤولين كبار.
النزاع القانوني والخصوصية: تحديات إضافية في طريق العدالة
بالإضافة إلى الصعوبات التي واجهتها إيتو في نظام العدالة الجنائية، واجهت أيضاً نزاعاً قانونياً يتعلق بحقوق الخصوصية. استخدمت إيتو لقطات من كاميرات المراقبة في الفندق ومقابلات مع شهود وأطراف معنية دون الحصول على موافقتهم. أثار هذا الأمر انتقادات من بعض المحامين الذين دافعوا عنها في قضية الاعتداء الجنسي، حيث اعتقدوا أن ذلك قد يضر بفرص قضايا مماثلة في المستقبل.
إحدى المحاميات السابقات لإيتو، يوكو نيشيهيرو، أعربت عن قلقها من أن الطريقة التي تعاملت بها إيتو مع خصوصية المصادر قد تجعل من الصعب الحصول على تعاون من الشهود المحتملين في قضايا الاعتداء الجنسي المستقبلية. في المقابل، ترى هايدي كا سين لي، الناقدة السينمائية والباحثة في جامعة صوفيا في طوكيو، أن تركيز المحامين على الخصوصية يتجاهل الأهمية الأكبر للفيلم في إحداث تغيير ثقافي. “أعتقد أن الأمر كله يتعلق بكيفية تحديد الصالح العام”، كما قالت.
اعترافات واعتذارات: خطوات نحو المصالحة
في فبراير 2024، اعترفت إيتو باستخدام بعض المحتوى دون الحصول على موافقة واعتذرت، ووعدت بتحرير الفيلم لضمان عدم التعرف على هؤلاء الأشخاص في العروض المستقبلية. وقامت بتغيير أصوات موظفي الفندق ومحقق الشرطة وآخرين يظهرون في الفيلم. كما اعتذرت لسائق سيارة الأجرة وعائلته في أكتوبر 2023، معترفة بأنها استخدمت لقطات له دون موافقته.
ومع ذلك، أكدت إيتو أنها احتفظت ببعض المواد غير المصرح بها، معتبرة أنها ضرورية لوصف ما حدث لها بشكل كامل. في عام 2022، قضت المحكمة العليا بأن إيتو أُجبرت على ممارسة الجنس دون رضاها وأمرت ياماغوتشي بدفع تعويض لها قدره 3.3 مليون ين. ونفى ياماغوتشي هذا الادعاء، مدعياً أن العلاقة كانت بالتراضي، لكن دعواه المضادة المطالبة بتعويض عن الأضرار التي لحقت بسمعته قد رُفضت.
أثر الفيلم: إشعال حركة #MeToo في اليابان
يعتبر فيلم “الصندوق الأسود” بمثابة نقطة تحول في النقاش حول التحرش الجنسي في اليابان. وقد ساهم في إشعال حركة #MeToo في البلاد، التي كانت بطيئة في التطور مقارنة بالدول الغربية. الفيلم يثير أسئلة مهمة حول ثقافة الصمت، وصمة العار الاجتماعية، ونظام العدالة الذي غالباً ما يحمي المعتدين بدلاً من الضحايا.
كويوكي أزوما، إحدى الحاضرات للعرض الأول والتي قالت إنها نجت من الاعتداء الجنسي على يد والدها، أعربت عن شعورها بالتشجيع من كفاح إيتو. “كنت أشجعها وأنا أشاهدها”، قالت أزوما. “أعتقد أنه سيكون له تأثير إيجابي على المجتمع الياباني.” تأمل إيتو والموزع Toei Agency أن يساعد استقبال الجمهور الإيجابي في عرض الفيلم في المزيد من دور العرض، وأن يساهم في إحداث تغيير حقيقي في المجتمع الياباني. الفيلم ليس مجرد سرد لقصة شخصية، بل هو دعوة لكسر الصمت ومحاسبة المعتدين، وبناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافاً.
