في ظل القيود المالية الصارمة وقيود السفر، يواجه موظفو المحكمة الجنائية الدولية تحديات غير مسبوقة، تتشابه مع تلك التي فرضت على شخصيات مثل فلاديمير بوتين وأسامة بن لادن. هذه القيود، التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تستهدف القضاة والمدعين العامين الذين تجرؤوا على التحقيق في جرائم حرب محتملة ارتكبتها قوات أمريكية وإسرائيلية، وهما دولتان ليستا طرفًا في معاهدة روما التي أنشأت المحكمة. هذه الإجراءات، التي تهدف إلى تقويض عمل المحكمة، تثير تساؤلات حول استقلالية العدالة الدولية والضغوط السياسية التي تواجهها.
العقوبات الأمريكية وتأثيرها على عمل المحكمة الجنائية الدولية
لم تكن العقوبات مفاجئة تمامًا للقضاة والمدعين، خاصةً أولئك الذين لديهم خبرة سابقة في التعامل مع أنظمة العقوبات الدولية. ومع ذلك، فإن نطاق هذه الإجراءات وتأثيرها على الحياة اليومية للموظفين، بما في ذلك عائلاتهم، يثير قلقًا بالغًا. فقد تم تجميد الحسابات المصرفية، وإلغاء التأشيرات، وحتى تعطيل الخدمات الرقمية الأساسية.
القاضية الكندية كيمبرلي بروست، التي كانت ضمن قائمة العقوبات، وصفت الوضع بأنه “تقييد لعالمك كله”. فبعد وقت قصير من إدراج اسمها في القائمة، وجدت أن كتابًا إلكترونيًا اشترته قد اختفى من جهازها، مما يعكس حالة عدم اليقين التي يعيشونها. هذه ليست مجرد مضايقات بسيطة، بل هي تراكمات تؤثر على قدرتهم على العمل بفعالية.
تفاصيل القيود المفروضة على موظفي المحكمة
تجاوزت العقوبات مجرد القيود المالية. فقد أُلغيت تأشيرة المدعي العام للمحكمة، كريم خان، وتم إغلاق حسابه المصرفي. كما أن شركة مايكروسوفت ألغت عنوان بريده الإلكتروني الخاص بالمحكمة. بالنسبة للقاضية بروست، تعطلت بطاقاتها الائتمانية وتوقفت خدمة Alexa عن الاستجابة لها. هذه الإجراءات تعيق ليس فقط عملهم الرسمي، بل أيضًا حياتهم الشخصية، مما يثير مخاوف جدية بشأن سلامتهم وأمنهم.
هذه الإجراءات تضع موظفي المحكمة في موقف صعب، حيث يواجهون خطرًا متزايدًا من الاعتقال في روسيا، بالإضافة إلى القلق من أن الولايات المتحدة قد تفرض عقوبات أوسع نطاقًا على المحكمة الجنائية الدولية بأكملها، مما قد يؤدي إلى شل عملياتها.
القلق على العائلات وتحدي الاستقلالية
لا يقتصر تأثير العقوبات على الموظفين أنفسهم، بل يمتد ليشمل عائلاتهم. القاضية البيروفية لوز ديل كارمن إيبانيز كارانزا، التي شاركت في قرار التحقيق في أفغانستان، أعربت عن قلقها على بناتها اللاتي لم يعد بإمكانهن حضور مؤتمرات العمل في الولايات المتحدة. نائبة المدعي العام، نزهة شميم خان، شاركت هذا القلق، قائلة إنها لا تستطيع التأكد مما إذا كان عدم عمل بطاقتها الائتمانية في مكان ما هو مجرد خلل فني أم نتيجة للعقوبات.
هذه القيود تهدف إلى ترهيب موظفي المحكمة الجنائية الدولية وتقويض استقلاليتهم. ومع ذلك، يبدو أنهم مصممون على مواصلة عملهم. إيبانيز، التي لديها خبرة في محاكمة الإرهابيين وأباطرة المخدرات في بيرو، أكدت أن العقوبات لن تثنيها عن أداء واجبها. كما أن القاضية بروست تؤكد أن العقوبات “لا تردع ولا تقيد” الموظفين.
دوافع الإدارة الأمريكية السابقة ومستقبل المحكمة
تبرر الإدارة الأمريكية السابقة، بقيادة دونالد ترامب، هذه العقوبات بأنها رد فعل على “الأعمال غير الشرعية والتي لا أساس لها من الصحة” التي تستهدف الولايات المتحدة وإسرائيل. وتؤكد واشنطن أنها لن تتسامح مع أي محاولة لانتهاك سيادتها أو إخضاع مواطنيها للولاية القضائية للمحكمة.
ومع ذلك، يرى الكثيرون أن هذه العقوبات تمثل هجومًا على العدالة الدولية ومحاولة لعرقلة التحقيقات في جرائم حرب محتملة. فقد استغرق الأمر وقتًا طويلاً لإزالة العقوبات عن المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا، ولم يتم ذلك إلا بعد تولي جو بايدن الرئاسة.
التحديات المستمرة والالتزام بالعدالة
على الرغم من هذه التحديات، تظل المحكمة الجنائية الدولية ملتزمة بمهمتها المتمثلة في محاكمة الأفراد المسؤولين عن أبشع الفظائع في العالم. فقد بدأت المحكمة هذا العام في التحقيق في جرائم حرب مزعومة في أوكرانيا، وأصدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما أنها تواصل التحقيق في جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في أفغانستان والفلبين.
إن مستقبل المحكمة الجنائية الدولية غير مؤكد، لكنها تظل رمزًا للأمل في تحقيق العدالة للضحايا الذين عانوا من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. وعلى الرغم من الضغوط السياسية والعقوبات المالية، فإن القضاة والمدعين العامين في المحكمة مصممون على مواصلة عملهم، والدفاع عن مبادئ العدالة والمساءلة.
الوضع الحالي يبرز أهمية دعم المجتمع الدولي للمحكمة الجنائية الدولية، وضمان قدرتها على العمل بشكل مستقل وفعال. كما أنه يسلط الضوء على الحاجة إلى حماية موظفي المحكمة وعائلاتهم من التهديدات والترهيب. إن تحقيق العدالة يتطلب شجاعة وتصميمًا، وهو ما يملكه موظفو المحكمة الجنائية الدولية بوفرة.
