في الآونة الأخيرة، تضاءلت الآمال التي كانت معلقة على خفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الشهر المقبل. فما كان يُنظر إليه على أنه سيناريو شبه مؤكد، أصبح الآن موضع خلاف حاد داخل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وذلك بسبب تضارب الآراء حول صحة الاقتصاد الأمريكي، وتحديداً فيما يتعلق بالتضخم المستمر و قوة سوق العمل. هذا الجدل المتصاعد يثير تساؤلات حول مستقبل السياسة النقدية وتأثيرها على المستهلكين والشركات.
تضارب الآراء في الاحتياطي الفيدرالي: هل نخشى التضخم أم ضعف التوظيف؟
أصبح مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي منقسمين بين أولئية مكافحة التضخم، وأولئية الحفاظ على قوة سوق العمل. في سلسلة من الخطابات والتصريحات التي أدلى بها أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة (FOMC) خلال الأسبوع الماضي، بدأنا نلمس قلقًا متزايدًا بشأن استمرار ارتفاع معدلات التضخم، وتأثيرها على القدرة الشرائية للمواطنين، وهو ما انعكس سلبًا على نتائج بعض الانتخابات الأخيرة.
في المقابل، يركز معسكر آخر على هشاشة سوق العمل، ويحذر من أن الاستمرار في رفع أسعار الفائدة قد يؤدي إلى تباطؤ حاد في التوظيف، و زيادة في عمليات التسريح، مما يهدد بتحويل حالة “الوظائف المتاحة قليلة و المخاطر منخفضة” إلى “الوظائف المتاحة قليلة و المخاطر عالية”. هذا التباين في وجهات النظر يعكس حالة من عدم اليقين الاقتصادي تعيق اتخاذ قرارات حاسمة بشأن السياسة النقدية.
العوامل المؤثرة على قرار أسعار الفائدة
هذا التشوش في الرؤية الاقتصادية ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة لتداخل عدة عوامل مؤثرة. من بين هذه العوامل: تأثير التعريفات الجمركية على أسعار السلع، و التطورات السريعة في مجال الذكاء الاصطناعي وتداعياتها على التوظيف، بالإضافة إلى التغيرات المستمرة في سياسات الهجرة و الضرائب. كلها عوامل تعقد عملية التنبؤ بالمسار الاقتصادي المستقبلي، وتجعل مهمة الاحتياطي الفيدرالي أكثر صعوبة.
كما أن التوقف الجزئي للحكومة الأمريكية، وما نتج عنه من انقطاع في تدفق البيانات الاقتصادية، يزيد من حدة هذا التحدي. فكما هو معروف، يعتمد الاحتياطي الفيدرالي بشكل كبير على البيانات الاقتصادية المتاحة لاتخاذ قراراته. و غياب هذه البيانات، أو تأخرها، يجعله يتخبط في الظلام.
توقعات السوق و احتمالات خفض أسعار الفائدة
تنعكس هذه الخلافات الداخلية في الاحتياطي الفيدرالي على توقعات السوق. ففي بداية الأمر، كانت احتمالات خفض أسعار الفائدة في اجتماع ديسمبر القادم تصل إلى 94٪ تقريبًا. ولكن مع تصاعد الخلافات بين المسؤولين، و تزايد المخاوف بشأن التضخم، انخفضت هذه الاحتمالات بشكل حاد لتصل الآن إلى 50-50. هذا الانخفاض في توقعات السوق ساهم بدوره في انخفاض أسعار الأسهم هذا الأسبوع، مما يعكس حالة من القلق لدى المستثمرين.
سيناريوهات محتملة للاجتماع القادم و احتمالية المعارضة
يشير المحللون إلى أن اجتماع لجنة FOMC في التاسع و العاشر من ديسمبر قد يشهد عددًا غير اعتيادي من الأصوات المعارضة، بغض النظر عن القرار النهائي بشأن أسعار الفائدة. فإذا قرر الاحتياطي الفيدرالي خفض أسعار الفائدة، فقد يصل عدد المعارضين إلى أربعة أو خمسة. أما إذا قرر الإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير، فقد يكون هناك ثلاثة معارضين على الأقل. هذه الزيادة المتوقعة في عدد الأصوات المعارضة سيكون أمرًا غير مسبوق منذ عام 1992، عندما انشق أربعة مسؤولين في عهد الرئيس السابق آلان جرينسبان.
محافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي، كريستوفر والر، أشار إلى أن هذه المعارضة قد تكون علامة على أن الاحتياطي الفيدرالي لم يعد يتبع سياسة “التفكير الجماعي”، حيث يتم اتخاذ القرارات بالإجماع. بل قد نشهد، على حد تعبيره، “أقل مجموعة من الآراء المتفقة” منذ فترة طويلة.
مخاوف بشأن التضخم و سوق العمل
تتزايد المخاوف بشأن استمرار ارتفاع التضخم، خاصةً مع ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، وأقساط التأمين، وأسعار الكهرباء. كما أن تأثير التعريفات الجمركية على أسعار السلع المستوردة يساهم في زيادة الضغوط التضخمية.
في المقابل، يرى البعض أن تباطؤ سوق العمل يمثل تهديدًا أكبر. فقد أشار كريستوفر والر إلى أن سوق العمل “يقترب من سرعة التوقف”، وأن الاستمرار في رفع أسعار الفائدة قد يؤدي إلى تفاقم هذه المشكلة.
الخلاصة: مستقبل السياسة النقدية معلق بالبيانات الجديدة
بشكل عام، يبدو مستقبل السياسة النقدية في الولايات المتحدة معلقًا بالبيانات الاقتصادية الجديدة التي ستصدر في الفترة القادمة. إذا أظهرت هذه البيانات تباطؤًا حادًا في التوظيف، فقد يدفع ذلك الاحتياطي الفيدرالي إلى إعادة النظر في قراراته، و التوجه نحو خفض أسعار الفائدة. ولكن إذا استمر التضخم في الارتفاع، فقد يضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى الإبقاء على أسعار الفائدة عند مستوياتها الحالية، أو حتى زيادتها.
من الواضح أن الاحتياطي الفيدرالي يواجه تحديًا كبيرًا في الموازنة بين أولويات مكافحة التضخم والحفاظ على قوة سوق العمل. و القرار الذي سيتخذه في اجتماع ديسمبر القادم سيكون له تأثير كبير على الاقتصاد الأمريكي، وعلى الأسواق المالية العالمية. لذلك، من المهم متابعة التطورات الاقتصادية عن كثب، و تحليل البيانات المتاحة بعناية، لفهم المسار الذي سيسلكه الاحتياطي الفيدرالي في المستقبل القريب.
