بعد مرور عام على انتخاب حكومة حزب العمال في بريطانيا، يواجه رئيس الوزراء كير ستارمر ووزيرة الخزانة راشيل ريفز تحدياً حقيقياً في الحفاظ على وعودهم الاقتصادية. فمع ارتفاع التضخم بشكل مستمر، وتزايد الديون الحكومية، وتوتر الأوضاع الاقتصادية، تجد الحكومة نفسها مضطرة لتقديم ميزانية جديدة مليئة بالزيادات الضريبية، في محاولة يائسة لتحقيق الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي الذي طال انتظاره.

واقع الاقتصاد البريطاني الصعب

كان الفوز الساحق لحزب العمال في العام الماضي مصحوباً بوعود بإصلاح المالية العامة، وخفض الديون، وتخفيف أعباء تكاليف المعيشة على المواطنين، وتحفيز النمو الاقتصادي. ولكن بعد مرور عام، تبدو هذه الوعود بعيدة المنال. الاقتصاد البريطاني، الذي يعتبر سادساً على مستوى العالم، لم يحقق النمو المتوقع، بل على العكس، يعاني من تباطؤ ملحوظ.

وحسب تصريحات راين نيوتن سميث، رئيس مجموعة الأعمال في اتحاد الصناعة البريطانية، فإن الوضع يشبه إلى حد كبير “يوم جرذ الأرض”، أي حالة من الركود والتكرار دون تحقيق أي تقدم حقيقي. هذا الشعور بالجمود لا ينعكس فقط على أداء الشركات، بل يمتد ليشمل المواطنين الذين بدأوا يفقدون الثقة بقدرة الحكومة على تحسين أوضاعهم.

الميزانية القادمة: زيادات ضريبية وقيود مالية

يتوقع أن تقدم وزيرة الخزانة راشيل ريفز ميزانية سنوية مليئة بالإجراءات التقشفية والزيادات الضريبية، وذلك بهدف زيادة الإيرادات الحكومية وتقليل العجز في الميزانية. وتصر ريفز على أن هذه القرارات ستكون “صعبة ولكن صحيحة”، وتهدف إلى تخفيف أعباء المعيشة وحماية الخدمات العامة، مع الحفاظ على الديون تحت السيطرة.

لكن الخيارات المتاحة أمام الحكومة محدودة للغاية. فالضغوط على المالية العامة ازدادت بسبب جائحة كوفيد-19، والحرب في أوكرانيا، والتغيرات في السياسات التجارية العالمية. بالإضافة إلى ذلك، يتحمل الاقتصاد البريطاني تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، والذي أدى إلى خسائر مالية كبيرة منذ عام 2020.

وتشير التقارير إلى أن الحكومة تتجنب إجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق العام، كما أنها تواجه صعوبات في خفض فاتورة الرعاية الاجتماعية الضخمة. لذلك، تبقى الزيادات الضريبية هي الخيار الرئيسي المتاح لرفع الإيرادات.

معضلة الثقة: الأسواق والناخبين

تواجه الحكومة معضلة حقيقية في الموازنة بين إرضاء الأسواق المالية وكسب ثقة الناخبين. ففي الماضي، أدت سياسات غير مدروسة إلى اضطراب في الأسواق وارتفاع تكاليف الاقتراض، كما حدث في عهد رئيسة الوزراء السابقة ليز تروس.

ويؤكد لوك هيكمور، مدير الاستثمار في شركة أبردين للاستثمارات، أن سوق السندات سيكون “الفحص النهائي للواقع” لسياسة الميزانية. فإذا فقد المستثمرون ثقتهم في قدرة الحكومة على إدارة الاقتصاد بشكل سليم، فإن تكاليف الاقتراض سترتفع بشكل حاد، مما سيجبر الحكومة على تغيير مسارها.

من جهة أخرى، فإن زيادة الضرائب قد تؤدي إلى غضب الناخبين، الذين يشعرون بالفعل بضغوط مالية كبيرة. ويقول باتريك دايموند، أستاذ السياسة العامة بجامعة كوين ماري في لندن، إن إرضاء الأسواق والناخبين في نفس الوقت أمر صعب للغاية.

تراجع شعبية الحكومة وتحدي القيادة

يزيد من تعقيد الوضع التراجع المستمر في شعبية حكومة حزب العمال، وفقاً لنتائج استطلاعات الرأي. ففي الوقت الحالي، يتفوق حزب الإصلاح البريطاني اليميني المتشدد بقيادة نايجل فاراج على حزب العمال في استطلاعات الرأي، مما يثير قلقاً كبيراً داخل الحزب الحاكم.

وقد أثار مكتب رئيس الوزراء مؤخراً جدلاً واسعاً بعد إعلام وسائل الإعلام بشكل استباقي بأن كير ستارمر سيقاتل أي تحدٍ لقيادته. ورأى البعض في هذا التصريح محاولة لتعزيز سلطة ستارمر، لكنه جاء بنتائج عكسية، وأثار حالة من الذعر بين أعضاء البرلمان من حزب العمال، الذين يخشون من احتمال حدوث هزيمة كبيرة في الانتخابات المقبلة.

ميزانية حاسمة لمستقبل الحكومة

تأتي هذه الميزانية في وقت حرج بالنسبة لكير ستارمر وراشيل ريفز. فمع تزايد الضغوط الاقتصادية وتراجع شعبية الحكومة، قد تكون هذه الميزانية بمثابة نقطة تحول حاسمة.

إذا نجحت الحكومة في تقديم ميزانية مقنعة تُظهر التزامها بالاستقرار المالي والنمو الاقتصادي، فقد تتمكن من استعادة ثقة الأسواق والناخبين. أما إذا فشلت في تحقيق ذلك، فقد تكون هذه الميزانية بمثابة مسمار آخر في نعش حكومة ستارمر.

يعتمد مصير الحكومة بشكل كبير على قدرة راشيل ريفز على إيجاد توازن دقيق بين الضرائب والإنفاق، وكسب ثقة الأسواق والناخبين في نفس الوقت. فالميزانية القادمة ليست مجرد مجموعة من الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، بل هي اختبار حقيقي لقيادة حكومة حزب العمال وقدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية المعقدة التي تواجه بريطانيا في الوقت الحالي. إدارة الديون الحكومية بفعالية تمثل جوهر التحدي الذي تواجهه الحكومة.

شاركها.