كيب كنافيرال، فلوريدا (ا ف ب) – لطالما أثار قمر تيتان، أكبر أقمار كوكب زحل، فضول العلماء وأحلامهم باستكشاف عوالم أخرى. فقد كان الاعتقاد السائد لسنوات طويلة بوجود محيط شاسع من المياه السائلة تحت سطحه المتجمد، مما يجعله مرشحًا واعدًا لاحتضان الحياة خارج كوكب الأرض. لكن أحدث الأبحاث، التي تعتمد على بيانات جديدة من مهمة كاسيني، تقدم لنا صورة مختلفة تمامًا، وربما أكثر إثارة للاهتمام.

نظرة جديدة على التركيب الداخلي لتيتان

أفاد فريق من العلماء، بقيادة باحثين في مختبر الدفع النفاث التابع لناسا، بأن قمر تيتان قد لا يمتلك محيطًا عالميًا كما كان يُعتقد. بدلاً من ذلك، تشير البيانات إلى وجود طبقات عميقة من الجليد، مشابهة لما نراه في القطبين الشمالي والجنوبي على الأرض، مع وجود جيوب من المياه الذائبة مختبئة تحتها. هذه الجيوب، على الرغم من صغر حجمها المحتمل مقارنة بالمحيط العالمي، قد تكون كافية لدعم الحياة، بل وربما ازدهارها.

إعادة تحليل بيانات كاسيني

اعتمدت هذه النتائج على إعادة تحليل دقيقة للملاحظات التي جمعتها المركبة الفضائية كاسيني خلال سنوات دورانها حول زحل. لم يتم العثور على أي علامات واضحة تدعم وجود محيط عالمي، بل على العكس، ظهرت مؤشرات على أن التركيب الداخلي لـ تيتان أكثر تعقيدًا مما تصورنا. بابتيست جورنو، من جامعة واشنطن والمشارك في الدراسة المنشورة في مجلة “نيتشر”، يؤكد أن هذه النتائج لا تقلل من فرص وجود حياة، بل تغير فهمنا للبيئة التي قد تتطور فيها.

بيئة ذائبة وشبه قابلة للذوبان: هل هذا يعني الحياة؟

الفرضية الجديدة تشير إلى أن تيتان قد يكون في مرحلة انتقالية، حيث يكون المحيط قد تجمد جزئيًا في الماضي، وهو الآن في طور الذوبان التدريجي، أو أنه قد يتجه نحو التجمد الكامل. تُظهر نماذج الكمبيوتر أن هذه الطبقات من الجليد والطين والماء يمكن أن تمتد إلى أعماق تتجاوز 550 كيلومترًا. القشرة الجليدية الخارجية، التي يبلغ عمقها حوالي 170 كيلومترًا، تغطي طبقات من الطين وبرك المياه التي قد تصل إلى 400 كيلومترًا إضافية. والأكثر إثارة للدهشة، أن درجة حرارة هذه المياه قد تصل إلى 20 درجة مئوية، وهي درجة حرارة معتدلة جدًا مقارنة بظروف الفضاء القاسية.

هذه البيئة الفريدة، التي تجمع بين الجليد والمياه والطين، قد توفر الظروف اللازمة لتطور أشكال حياة مجهرية. كما يذكر جورنو، “الطبيعة أظهرت مرارًا وتكرارًا قدرة على الإبداع تفوق بكثير قدرة العلماء الأكثر إبداعًا”. وهذا يعني أن الحياة قد تتخذ أشكالًا لم نتوقعها بعد، وتتكيف مع الظروف البيئية القاسية بطرق مبتكرة.

تحديات وتأكيدات: هل انتهى البحث عن محيط تيتان؟

على الرغم من هذه النتائج المثيرة، لا يزال هناك جدل حول التركيب الداخلي لـ قمر تيتان. فلافيو بيتريكا، المؤلف الرئيسي للدراسة من مختبر الدفع النفاث، يوضح أن البيانات الجديدة تشير إلى وجود فجوة زمنية مدتها 15 ساعة بين ذروة قوة الجاذبية وارتفاع سطح تيتان. هذه الفجوة لا تتفق مع وجود محيط رطب، بل تدعم فكرة وجود جليد ذائب داخليًا مع جيوب من الماء السائل.

لكن عالم الفضاء لوتشيانو إيس، من جامعة سابينزا في روما، والذي كانت دراساته السابقة باستخدام بيانات كاسيني تشير إلى وجود محيط مخفي، لا يزال غير مقتنع. ويقول إيس إن الأدلة الحالية “غير كافية لاستبعاد تيتان من عائلة عوالم المحيطات”. وهذا يعني أن البحث عن المياه السائلة تحت سطح تيتان لم ينته بعد، وأن هناك حاجة إلى مزيد من الدراسات والأبحاث لتأكيد أو نفي هذه الفرضية.

مهمة دراجون فلاي: نافذة جديدة على تيتان

من المتوقع أن توفر مهمة Dragonfly، التي تخطط لها ناسا، مزيدًا من الوضوح حول التركيب الداخلي لـ تيتان. تتضمن هذه المهمة إرسال طائرة هليكوبتر إلى تيتان في وقت لاحق من هذا العقد، والتي ستقوم بجمع بيانات وتحليل عينات من سطح القمر وغلافه الجوي. جورنو هو جزء من فريق Dragonfly، مما يعني أننا قد نشهد اكتشافات جديدة ومثيرة في المستقبل القريب.

تيتان في سياق العوالم المائية الأخرى

يحتل كوكب زحل الصدارة بقائمة الأقمار في النظام الشمسي، حيث يضم 274 قمرًا. لكن تيتان ليس القمر الوحيد الذي يشتبه بوجود مياه سائلة تحت سطحه. فقد أظهرت الدراسات أن قمر المشتري جانيميد، وهو أكبر قليلًا من تيتان، قد يحتوي أيضًا على محيط تحت الأرض. بالإضافة إلى ذلك، هناك عوالم مائية أخرى مشتبه بها، مثل قمر إنسيلادوس التابع لكوكب زحل، وقمر يوروبا التابع لكوكب المشتري، وكلاهما يعتقد أنهما يحتويان على ينابيع مياه تنبثق من قشورهما المتجمدة. هذه الاكتشافات تزيد من حماس العلماء للبحث عن الحياة خارج كوكب الأرض، وتؤكد أن هناك العديد من الأماكن المحتملة التي قد توفر الظروف اللازمة لتطورها.

في الختام، على الرغم من أن فكرة وجود محيط عالمي تحت سطح تيتان قد تكون بعيدة المنال، إلا أن هذا لا يعني أن القمر غير قادر على استضافة الحياة. البيئة الذائبة وشبه القابلة للذوبان التي تشير إليها البيانات الجديدة قد تكون أكثر ملاءمة لتطور أشكال حياة مجهرية، مما يجعل تيتان هدفًا جذابًا للاستكشاف المستقبلي. مهمة Dragonfly تحمل وعدًا بتقديم إجابات حاسمة حول هذا القمر الغامض، وربما تكشف لنا عن أسرار جديدة حول أصول الحياة في الكون.

شاركها.