القدس – اكتشف علماء الآثار مؤخرًا أطول جزء محفوظ من سور قديم يحيط بالقدس، ويعود تاريخه إلى فترة المملكة الحشمونائية. هذا الاكتشاف الهام لا يلقي الضوء فقط على التحصينات القديمة للمدينة، بل يقدم أيضًا دليلًا محتملًا على اتفاقية وقف إطلاق نار غير متوقعة استمرت لمدة 2100 عام بين قوتين متحاربتين. يمثل هذا الاكتشاف إضافة قيمة لفهم تاريخ القدس وتعقيداته.

اكتشاف أساسات سور الحشمونائيم: رحلة عبر الزمن

أنهى فريق من علماء الآثار، في الأسبوع الماضي، أعمال التنقيب عن الجزء الأكثر اكتمالاً الذي تم اكتشافه على الإطلاق من أسس الأسوار التي حاصرت القدس خلال العصر الحشموني، وهو العصر الذي شهد أحداث قصة حانوكا الشهيرة. تُعرف حانوكا في العبرية بـ “التفاني”، وهي تحتفل بإعادة تكريس الهيكل المقدس في القدس في القرن الثاني قبل الميلاد، بعد تحريره من القوات الأجنبية المحتلة على يد مجموعة صغيرة من المقاتلين اليهود.

يبلغ طول الجزء المكتشف من القدس حوالي 50 مترًا (164 قدمًا)، أي ما يقارب نصف طول ملعب كرة القدم، وعرضه حوالي 5 أمتار (16 قدمًا). تشير التقديرات والكتابات التاريخية إلى أن هذه الأسوار كانت أطول وأكثر قوة من الأسوار الحالية المحيطة بالبلدة القديمة. هذا الاكتشاف يفتح نافذة جديدة على الحياة العسكرية والسياسية في القدس خلال تلك الفترة المضطربة.

جدار وقف إطلاق النار: قصة دبلوماسية قديمة

أحد الجوانب الأكثر إثارة للدهشة في هذا الاكتشاف هو الطريقة التي يبدو بها أن الجدار قد تم تفكيكه بشكل متعمد ومنظم إلى ارتفاع موحد. هذا يشير إلى أنه لم يتم تدميره بفعل عوامل الزمن أو الحرب، بل نتيجة لقرار واعٍ.

الدكتور أميت رعيم، أحد علماء الآثار الرئيسيين في المشروع من هيئة الآثار الإسرائيلية، يرى أن هذا التفكيك المتعمد قد يكون مرتبطًا باتفاقية وقف إطلاق نار تاريخية. في عام 132 أو 133 قبل الميلاد، حاصر الملك الهلنستي أنطيوخس السابع القدس ومملكة يهودا، كما ذكر المؤرخ اليهودي القديم فلافيوس يوسيفوس.

وفي ظل صعوبة الموقف، قرر الملك اليهودي يوحنا هيركانوس الأول التفاوض مع أنطيوخس. وفقًا لكتابات يوسيفوس، عرض هيركانوس فدية كبيرة مقابل رفع الحصار، وتضمنت هذه الفدية هدم التحصينات الحشمونائية. “توصل أنطيوخس سيدتس (السابع) إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع يوحنا هيركانوس، قائلًا، إذا كنت تريد مني أن أزيل جيشي، فيجب عليك أنت، الملك اليهودي، أن تهدم بالأرض التحصين الحشموني الذي بنيته أنت وأبوك”، كما نقل رعيم عن يوسيفوس.

ويضيف رعيم: “نعتقد أننا وجدنا الدليل الأثري على ذلك، وهذا أمر مدهش للغاية. علم الآثار والقصص القديمة يجتمعان معًا، وهذا هو سحر القدس.”

هل كان قصر هيرودس هو السبب؟ نظريات بديلة

على الرغم من هذه النظرية المقنعة، يرى بعض الباحثين أن هناك تفسيرات أخرى محتملة لتفكيك جزء من سور الحشمونائيم. تقترح أوريت بيليج بركات، رئيسة قسم الآثار الكلاسيكية في الجامعة العبرية في القدس، أن الأمر قد يكون مرتبطًا ببناء قصر الملك هيرودس في القرن الأول قبل الميلاد.

وتشير بركات إلى أن الأجزاء الأخرى من سور الحشمونائيم التي تم اكتشافها في مناطق مختلفة من القدس لم يتم تفكيكها. لذلك، من الممكن أن يكون تفكيك هذا الجزء تحديدًا كان يهدف إلى توفير أساس متين لقصر هيرودس، كرسالة واضحة لسيادته على المدينة. وتستبعد بركات فكرة أن القدس كانت ستظل بدون تحصينات لفترة طويلة، مما يجعل نظرية وقف إطلاق النار أقل احتمالاً. التحصينات القديمة كانت ضرورية لحماية المدينة.

موقع الاكتشاف: من سجن إلى متحف

تم الكشف عن هذا الجزء من الجدار تحت جناح مهجور من مبنى الكشلة، الذي يعود تاريخه إلى عام 1830، حيث تم استخدامه في الأصل كقاعدة عسكرية. لاحقًا، تحول الجناح إلى سجن، واستخدمه البريطانيون حتى الأربعينيات من القرن الماضي.

الجدران داخل الجناح مغطاة بكتابات نقشها السجناء باللغات الإنجليزية والعبرية والعربية، ولا تزال بقايا القضبان الحديدية للزنزانات ظاهرة. تستخدم الشرطة الإسرائيلية معظم المبنى حتى اليوم، ولكن تم التخلي عن هذا الجناح ونقله إلى متحف برج داود.

بدأ علماء الآثار التنقيب في هذا الجناح عام 1999، لكن أعمال العنف خلال الانتفاضة الثانية أوقفت العمل حتى عامين مضت. خلال العامين الماضيين، قاموا بإزالة كميات هائلة من الأوساخ والحطام يدويًا، وكشفوا عن حفر صباغة تعود إلى العصور الوسطى، بالإضافة إلى أساسات القدس الحشمونائية.

مستقبل الاكتشاف: عرض تاريخي للزوار

يخطط متحف برج داود لتركيب أرضية زجاجية عائمة فوق الآثار، وتحويل القاعة إلى واحدة من صالات العرض الجديدة في جناح شوليش للآثار والفنون والابتكار. من المتوقع أن تستغرق أعمال التجديد عامين على الأقل بعد انتهاء أعمال التنقيب.

هذا الاكتشاف يمثل فرصة فريدة لعرض تاريخ التحصينات في القدس للجمهور، وإحياء قصة المدينة العريقة. كما يذكرنا بأهمية البحث الأثري في فهم ماضينا، وكشف الحقائق المخفية التي تشكل هويتنا. التنقيبات الأثرية في القدس مستمرة في إثراء فهمنا لهذه المدينة المقدسة.

الخلاصة

إن اكتشاف أساسات سور الحشمونائيم في القدس هو إنجاز أثري هام. لا يلقي هذا الاكتشاف الضوء على تاريخ القدس القديم فحسب، بل يقدم أيضًا أدلة مثيرة للاهتمام حول العلاقات الدبلوماسية والتحالفات التي شكلت المنطقة. سواء كان هذا الجزء من الجدار قد تم تفكيكه كجزء من اتفاقية وقف إطلاق نار، أو لتمهيد الطريق لبناء قصر هيرودس، فإن هذا الاكتشاف يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى تاريخ المدينة. مع استمرار أعمال التنقيب والتجديد، نتطلع إلى رؤية هذا الكنز الأثري مفتوحًا للجمهور، ليشارك الجميع في سحر وتاريخ القدس.

شاركها.