في السابع من مايو 2017، وقف إيمانويل ماكرون أمام أنصاره منتصرًا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، معلنًا عن بداية عهد جديد. لكن كلمته لم تكن مجرد احتفال بالنصر، بل كانت اعترافًا بوجود قوة معارضة متنامية، قوة تمثلت في مارين لوبان وحزبها، الجبهة الوطنية آنذاك. لقد حصلت لوبان على أكثر من 10.6 مليون صوت، وهو رقم قياسي لحزبها، وأشار إلى حالة من الاستياء والغضب المتزايد في المجتمع الفرنسي. هذا الاستياء، الذي لم يتمكن ماكرون من تجاهله، كان بمثابة نقطة تحول في السياسة الفرنسية، ومهد الطريق لصعود اليمين المتطرف، وهو ما نشهده اليوم مع حزب التجمع الوطني، الذي أصبح الآن أقوى من أي وقت مضى.
صعود التجمع الوطني: من الهامش إلى قلب المشهد السياسي
لم يكن صعود التجمع الوطني (الذي كان يُعرف سابقًا بالجبهة الوطنية) مفاجئًا تمامًا، ولكنه بالتأكيد تسارع في السنوات الأخيرة. تحت قيادة مارين لوبان، تمكن الحزب من التخلص من الصورة النمطية السلبية التي التصقت به بسبب مواقف والدها، جان ماري لوبان، المثيرة للجدل. أصبحت لوبان شخصية أكثر اعتدالًا وجاذبية، قادرة على التواصل مع شرائح أوسع من الناخبين.
تغيير العلامة التجارية وتوسيع القاعدة الشعبية
في عام 2018، قام الحزب بتغيير اسمه إلى التجمع الوطني كجزء من استراتيجية أوسع لإعادة العلامة التجارية. كان الهدف هو التخلص من الارتباطات السلبية بالماضي وجذب ناخبين جدد، خاصة من الطبقة العاملة والريف الفرنسي. ركزت لوبان على قضايا مثل الأمن والهوية الوطنية، واستغلت مخاوف الناخبين بشأن الهجرة والتغيرات الاجتماعية.
نتائج الانتخابات الأوروبية والتشريعية: مؤشر على قوة متزايدة
أظهرت الانتخابات الأوروبية لعام 2024 مدى قوة التجمع الوطني، حيث حقق الحزب فوزًا ساحقًا. هذه النتيجة، التي فاجأت الكثيرين، دفعت ماكرون إلى حل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة. في الانتخابات التشريعية، حقق التجمع الوطني مكاسب كبيرة، حيث حصل على 123 مقعدًا، متجاوزًا جميع الأحزاب الأخرى. على الرغم من عدم حصوله على أغلبية مطلقة، إلا أن هذا الإنجاز يمثل علامة فارقة في تاريخ الحزب ويؤكد مكانته كقوة رئيسية في السياسة الفرنسية.
الفقر والاستياء الاجتماعي: وقود صعود اليمين المتطرف
لا يمكن فهم صعود التجمع الوطني بمعزل عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية في فرنسا. فقد شهدت البلاد تفاقمًا في الفقر وعدم المساواة في الثروة خلال فترة رئاسة ماكرون.
تزايد أعداد الفقراء في عهد ماكرون
منذ عام 2017، انخفض أكثر من 1.2 مليون شخص إلى ما دون عتبة الفقر في فرنسا. وقد أدى ذلك إلى شعور متزايد بالإحباط والغضب بين العديد من الفرنسيين، الذين يشعرون بأنهم مهمشون ومنسيون من قبل الحكومة. انتقد اليساريون سياسات ماكرون الاقتصادية، التي وصفوها بأنها “رئيس الأثرياء”، بسبب تركيزها على خفض الضرائب على الشركات والأثرياء.
العلاقة بين الفقر والتصويت لليمين المتطرف
أظهرت الدراسات الاستقصائية التي أجرتها وكالة أسوشيتد برس وجود علاقة قوية بين معدلات الفقر ودعم التجمع الوطني في الانتخابات التشريعية. فقد حقق الحزب تقدمًا ملحوظًا في بعض أفقر المناطق في فرنسا، وخاصة في شمال شرق البلاد وعلى طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. يشير هذا إلى أن العديد من الناخبين الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم يرون في التجمع الوطني صوتًا يعبر عن مشاكلهم ومخاوفهم. كما أن الناخبين يشعرون بتشاؤم متزايد بشأن مستقبل أطفالهم ووضعهم الشخصي، مما يجعلهم أكثر عرضة للتصويت للأحزاب التي تقدم حلولًا جذرية.
جاذبية لوبان: أسلوب ترامب على الطريقة الفرنسية
تعتمد جاذبية لوبان على قدرتها على استغلال مشاعر الغضب والاستياء لدى الناخبين. كما أنها تتبنى أسلوبًا سياسيًا مشابهًا لأسلوب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، من خلال التشكيك في المؤسسات القائمة وتقديم نفسها على أنها “صوت الشعب”.
التركيز على قضايا الهجرة والأمن
تظل مكافحة الهجرة من الركائز الأساسية لبرنامج التجمع الوطني. تستغل لوبان مخاوف الناخبين بشأن الهجرة غير الشرعية والجريمة، وتدعو إلى سياسات أكثر صرامة للحد من الهجرة وحماية الحدود الفرنسية. بالإضافة إلى ذلك، تركز لوبان على قضايا الأمن، وتدعو إلى زيادة الإنفاق على الشرطة وتعزيز سلطاتها.
وعد باستعادة “القوة الشرائية”
يعد التجمع الوطني الناخبين بخفض الضرائب وزيادة الإنفاق الاجتماعي، بهدف استعادة “القوة الشرائية” للطبقات العاملة والمتوسطة. يدعو الحزب إلى خفض إنفاق فرنسا على المهاجرين والاتحاد الأوروبي، وإعادة توجيه الأموال إلى الخدمات العامة مثل الرعاية الصحية والتعليم. هذه الوعود تجذب الناخبين الذين يشعرون بأنهم تضرروا من السياسات الاقتصادية للحكومة.
مستقبل السياسة الفرنسية
صعود التجمع الوطني يمثل تحديًا كبيرًا للسياسة الفرنسية التقليدية. فقد أظهرت الانتخابات الأخيرة أن الحزب قادر على حشد دعم واسع النطاق، خاصة بين الناخبين الذين يشعرون بالإحباط والغضب. على الرغم من أن الحزب لم يتمكن بعد من الوصول إلى السلطة، إلا أنه يمثل قوة متنامية يجب أخذها على محمل الجد.
في الوقت الحالي، يواجه ماكرون وضعًا صعبًا، حيث يحتاج إلى إيجاد طريقة للحفاظ على حكومته في السلطة وتجنب المزيد من المكاسب لليمين المتطرف. قد يضطر إلى تقديم تنازلات لـ التجمع الوطني أو البحث عن تحالفات جديدة مع أحزاب أخرى. بغض النظر عن النتيجة، فمن الواضح أن السياسة الفرنسية قد تغيرت إلى الأبد. الوضع الحالي يثير تساؤلات حول مستقبل فرنسا، وما إذا كانت ستستمر في اتباع مسارها الحالي أم ستنحرف نحو اليمين المتطرف.

