مع تزايد الضغوط على سياسات الهجرة في أوروبا، تشهد القارة تحولاً ملحوظاً في التعامل مع ملف الهجرة إلى أوروبا. ففي ظل تآكل التعاطف مع المهاجرين وارتفاع الأصوات المطالبة بتشديد الرقابة، اتفقت الدول الأوروبية على إعادة النظر في الضمانات القانونية التي كانت تحمي المهاجرين منذ عقود، وهو ما يثير قلق منظمات حقوق الإنسان. هذا التحول يأتي بالتزامن مع صعود اليمين المتطرف واستغلاله لمخاوف الرأي العام بشأن الهجرة، على الرغم من أن أرقام العبور غير النظامي قد انخفضت في الواقع.
تراجع الدعم للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان
مجلس أوروبا، الذي يضم 46 دولة، أقر بوجود “تحديات” مرتبطة بالهجرة، ولكنه أكد في الوقت نفسه على التزامه بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي تعتبر حجر الزاوية في حماية حقوق الإنسان في القارة. ومع ذلك، فإن هذا التأكيد لم يمنع النقاش المتزايد حول إمكانية تعديل أو إعادة تفسير الاتفاقية لتلبية ما تسميه الدول الأعضاء “المصالح الوطنية الحيوية”، مثل الأمن.
وقد بدأت هذه المناقشات تأخذ شكلاً أكثر جدية في العام الماضي، عندما وقعت تسع دول على رسالة مشتركة تهدف إلى الحد من سلطة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. تعتبر هذه الدول أن المحكمة تضع قيوداً كبيرة على قدرتها على التعامل مع الهجرة غير الشرعية وترحيل المهاجرين المتورطين في جرائم.
استقلالية المحكمة الأوروبية موضع تساؤل
أمين عام مجلس أوروبا، آلان بيرسيه، دافع عن استقلالية المحكمة في ذلك الوقت، واصفاً الاتفاقية بأنها “أداة حية” تتكيف مع الظروف المتغيرة. لكن الدعم لموقف أكثر صرامة في التعامل مع الهجرة غير الشرعية تزايد بشكل ملحوظ.
وفي خطوة تعكس هذا التحول، وقعت 27 دولة بياناً منفصلاً يوم الأربعاء تدعو إلى تفسير أقل تقييداً للاتفاقية، مع التأكيد على ضرورة إيجاد “توازن صحيح” بين حقوق المهاجرين والمصالح العامة للدول المضيفة. أندرو فورد، المؤسس المشارك لمجموعة أغورا، يرى أن هذا البيان يمثل نقطة تحول تاريخية، حيث أنه للمرة الأولى تحدد مجموعة من الدول الأعضاء فئة معينة من الأشخاص (المهاجرين) الذين ترغب في توفير حماية أقل لحقوقهم.
دعوات أوروبية لتشديد الرقابة على الحدود
بالتوازي مع هذه التطورات، كثفت بعض الدول الأوروبية دعواتها لتشديد الرقابة على الحدود وتقليل فرص الهجرة الاقتصادية. فقد نشر رئيسا وزراء الدنمارك والمملكة المتحدة مقالاً مشتركاً في صحيفة الغارديان، أكدا فيه على أن تشديد ضوابط الهجرة هو أفضل طريقة لمواجهة صعود قوى الكراهية والانقسام.
هذه الدعوات تأتي في سياق سعي الحكومات الأوروبية لإظهار قدرتها على معالجة مخاوف الرأي العام بشأن سياسات اللجوء والهجرة، وتقديم حلول ملموسة لمشكلة الهجرة غير النظامية.
الاتحاد الأوروبي يستهدف شبكات التهريب
على صعيد آخر، تعهدت المفوضية الأوروبية باتخاذ إجراءات صارمة ضد شبكات تهريب البشر التي تنقل المهاجرين إلى أوروبا بشكل غير قانوني. المفوضة الأوروبية أورسولا فون دير لاين، أكدت على أن الهدف هو “إفلاس” هذه الشبكات بكل الوسائل المتاحة.
وعلى الرغم من هذه الجهود، تشير الأرقام إلى أن الهجرة غير النظامية إلى الاتحاد الأوروبي انخفضت بنسبة 22٪ في الفترة من يناير إلى أكتوبر من هذا العام مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وقد سجلت وكالة خفر السواحل والحدود الأوروبية (فرونتكس) 152 ألف عبور حدودي غير مصرح به خلال هذه الفترة.
الهجرة القانونية مقابل الهجرة غير النظامية
تجدر الإشارة إلى أن غالبية الهجرة إلى أوروبا تتم بشكل قانوني، حيث يدخل العديد من المهاجرين بتأشيرات دخول تتجاوز مدة إقامتهم. وفي الوقت نفسه، تستثمر الدول الأوروبية مبالغ طائلة في برامج لجذب وتدريب العمال الأجانب، خاصة في ظل شيخوخة السكان ونقص العمالة في بعض القطاعات. كما أن الاتحاد الأوروبي ينفق مليارات اليورو لردع الهجرة غير الشرعية، ويقدم الدعم المالي للدول الأفريقية والشرق أوسطية لاعتراض المهاجرين الذين يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.
في الختام، يشهد ملف الهجرة في أوروبا تحولاً كبيراً، مدفوعاً بتراجع الدعم للضمانات القانونية التقليدية، وصعود الأصوات المطالبة بتشديد الرقابة، وتزايد المخاوف الأمنية. من المرجح أن تستمر هذه التطورات في التأثير على مستقبل الهجرة في أوروبا، وتشكيل سياسات جديدة أكثر صرامة في التعامل مع المهاجرين واللاجئين. يبقى السؤال مفتوحاً حول ما إذا كانت هذه السياسات ستنجح في تحقيق أهدافها، أم أنها ستؤدي إلى تفاقم المشاكل الإنسانية والقانونية المرتبطة بالهجرة. للمزيد من المعلومات حول الهجرة في أوروبا، يمكنكم زيارة مواقع المنظمات الحقوقية والوكالات الحكومية المعنية.

