في خضم إعلان الرئيس دونالد ترامب عن حزمة مساعدات زراعية بقيمة 12 مليار دولار لدعم المزارعين الأمريكيين المتضررين من الرسوم الجمركية، تصاعدت الاتهامات المتبادلة حول المسؤولية عن العجز التجاري الزراعي الذي تعاني منه الولايات المتحدة. ترامب ألقى باللوم على الرئيس السابق جو بايدن، مدعياً أنه حول فائضاً تجارياً زراعياً إلى عجز كبير. لكن هذا التبسيط يتجاهل تعقيدات المشهد التجاري العالمي وتأثيرات متعددة، بما في ذلك السياسات التي اتبعتها إدارته نفسها. هذا المقال يتناول العجز التجاري الزراعي الأمريكي، ويحلل الحقائق والأسباب الكامنة وراءه، بعيداً عن التسييس المفرط.
تطور العجز التجاري الزراعي: نظرة على الأرقام
الادعاء بأن الولايات المتحدة تمتعت بفائض تجاري زراعي خلال فترة ولاية ترامب الأولى، ثم تحول هذا الفائض إلى عجز في عهد بايدن، يحتاج إلى تدقيق. صحيح أن الميزان التجاري الزراعي كان إيجابياً للولايات المتحدة لمدة تقارب 60 عاماً حتى عام 2019. ففي نهاية عام 2016، بلغ الفائض حوالي 16.3 مليار دولار، ولكنه بدأ في الانخفاض في العام التالي، ليصل إلى 13.66 مليار دولار.
خلال العامين التاليين، استمر هذا الانخفاض، وتحول الميزان إلى عجز قدره حوالي 481 مليون دولار. شهد عام 2020 عودة طفيفة للفائض بقيمة 3.39 مليار دولار، وزاد هذا الفائض في عام 2021. لكن في عام 2022، عاد العجز التجاري الزراعي بقوة، وبلغ حوالي 36.45 مليار دولار، واستمر في النمو حتى نهاية عام 2024. وحتى شهر أغسطس من العام الحالي، سجل العجز التجاري الزراعي حوالي 36.3 مليار دولار. هذه الأرقام تشير إلى أن الوضع أكثر تعقيداً مما يوحي به إلقاء اللوم على إدارة واحدة.
حرب الرسوم الجمركية وتأثيرها على الصادرات الزراعية
لا يمكن تجاهل دور الحرب التجارية التي أطلقها ترامب مع الصين في تفاقم العجز التجاري الزراعي. ففي يناير 2018، فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية بنسبة 30٪ على الألواح الشمسية المستوردة، مما أدى إلى رد فعل مماثل من الصين بفرض رسوم وقيود على واردات السلع الأمريكية، بما في ذلك المنتجات الزراعية.
على الرغم من توقيع اتفاق المرحلة الأولى في يناير 2020، والذي التزمت الصين من خلاله بشراء 200 مليار دولار إضافية من السلع والخدمات الأمريكية، إلا أن معهد بيترسون وجد أن الصين لم تلتزم بالكثير من هذه الوعود. حتى بعد لقاء ترامب مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في أكتوبر الماضي، حيث وعدت الصين بشراء 12 مليون طن متري من فول الصويا الأمريكي، لم يتم تنفيذ سوى ربع هذا الالتزام حتى الآن.
عوامل أخرى تساهم في العجز
بالإضافة إلى الحرب التجارية، هناك عوامل أخرى متعددة تساهم في العجز التجاري الزراعي الحالي. قوة الدولار الأمريكي تزيد من تكلفة الصادرات الأمريكية، مما يجعلها أقل جاذبية للمشترين الأجانب. كما أن زيادة القوة الشرائية للمستهلكين الأمريكيين تدفعهم لشراء سلع ذات قيمة عالية لا يتم إنتاجها محلياً.
علاوة على ذلك، بدأت دول مثل البرازيل والأرجنتين في زيادة صادراتها من فول الصويا والذرة ولحم البقر، مما أدى إلى منافسة مباشرة مع الصادرات الأمريكية وخفض الأسعار. ولا يمكن إغفال تأثير الأحداث العالمية الكبرى مثل جائحة كوفيد-19، وتغير المناخ، والحرب في أوكرانيا، والتي أثرت جميعها على سلاسل الإمداد العالمية وأسعار السلع الزراعية.
التعقيد الاقتصادي وتأثير السياسات التجارية
كما يوضح جوزيف جلوبر، الزميل البارز في معهد أمريكان إنتربرايز، أن “الرسوم الجمركية يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الوضع، ولكن بشكل عام، فإن حقيقة احتمال وجود عجز أو فائض تعتمد بشكل أكبر على الأسعار العالمية”. هذا يعني أن العوامل الخارجية تلعب دوراً كبيراً في تحديد الميزان التجاري الزراعي، وأن السياسات التجارية وحدها لا يمكن أن تكون مسؤولة بشكل كامل عن العجز.
مستقبل التجارة الزراعية الأمريكية
في ظل هذه الظروف المعقدة، من الضروري تبني نهج شامل لمعالجة العجز التجاري الزراعي. يتطلب ذلك التفاوض على اتفاقيات تجارية عادلة ومتبادلة المنفعة مع الشركاء التجاريين الرئيسيين، وتعزيز القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية الأمريكية، والاستثمار في البحث والتطوير لزيادة الإنتاجية وتحسين الجودة.
كما يجب على الولايات المتحدة العمل على تنويع أسواقها التصديرية، وتقليل اعتمادها على دولة واحدة. بالإضافة إلى ذلك، يجب معالجة العوامل الداخلية التي تساهم في العجز، مثل قوة الدولار الأمريكي، وزيادة تكاليف الإنتاج.
في الختام، إن إلقاء اللوم على إدارة واحدة أو سياسة واحدة هو تبسيط مفرط لمشكلة معقدة. يتطلب حل العجز التجاري الزراعي الأمريكي فهماً شاملاً للعوامل المؤثرة، وتعاوناً بين جميع الأطراف المعنية، وتبني استراتيجية طويلة الأجل تهدف إلى تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الزراعي الأمريكي في السوق العالمية. نأمل أن تساهم هذه المناقشة في فهم أعمق للتحديات التي تواجه المزارعين الأمريكيين، والخطوات اللازمة لضمان مستقبل مزدهر للقطاع الزراعي.

