في ساو باولو، هزّت أخبار اعتقال الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو البلاد، وأثارت مشاعر مختلطة بين الفرح والحزن والشك. تلك الأخبار أيقظت سيمون غيماريش، معلمة متقاعدة في ريو دي جانيرو، من نومها على نبأٍ لا يخلو من مرارة وانتقام، فلقد فقدت خمسة من أقاربها، وأصدقاء، وجيران بسبب فيروس كورونا المستجد – كوفيد-19، وتلوم بولسونارو بشكل مباشر على هذه الخسائر الفادحة. فالاعتقال، الذي أمرت به المحكمة العليا البرازيلية، يمثل – في نظرها – “بداية صغيرة لتحقيق العدالة”، بعد سنوات من الإفلات من العقاب. هذه القضية ليست مجرد صراع سياسي، بل هي قصة ألم وخسارة، وإحساس بالظلم يختمر في قلوب الكثيرين، وتسليط الضوء على التداعيات المدمرة لسياسات الرئيس السابق خلال جائحة كورونا و ما بعدها.
اعتقال بولسونارو وإشعال ذكرى الضحايا
في أعقاب أمر الاعتقال الوقائي الصادر عن المحكمة العليا، الذي جاء قبل أيام من بدء تنفيذ حكم بالسجن لمدة 27 عامًا بتهمة محاولة الانقلاب بعد خسارته الانتخابات الرئاسية أمام لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، شهدت منصات التواصل الاجتماعي في البرازيل موجة من المشاركات التي تستذكر ضحايا كوفيد-19. هذه الظاهرة تكررت في سبتمبر عندما أُدين بولسونارو في قضية منفصلة، مما يعكس أن إدانة الرئيس السابق وأسره تثير مشاعر عميقة لدى أولئك الذين فقدوا أحباءهم خلال الجائحة.
غيماريش، التي تابعت تفاصيل محاكمة بولسونارو عن كثب، كانت في المستشفى ترافق شقيقتها عندما سخر بولسونارو، في عام 2021، من معاناة المرضى الذين يلهثون بحثًا عن الهواء. تتذكر غيماريش تلك اللحظة المؤلمة، وكيف قالت شقيقتها بأنها لا تستطيع التنفس قبل أن تفارق الحياة. هذه الذكرى تمنعها حتى من مجرد نطق اسم بولسونارو. وتشعر الآن بأن إدانة الرئيس السابق تمثل تخفيفًا لظلمها بشكل غير مباشر، مثل العديد من البرازيليين الآخرين الذين يعانون من نفس الجرح.
هل تحقق العدالة حقًا؟ جدل حول دوافع الإدانة
بالرغم من الشعور بالارتياح الذي عبر عنه البعض، إلا أن هناك من يشكك في أن إدانة بولسونارو بجرائم تتعلق بمحاولة الانقلاب تمثل تحقيقًا للعدالة فيما يتعلق بجرائمه خلال فترة الجائحة. دييغو أورسي، وهو مترجم من ساو باولو، أعرب عن خشيته من أن التركيز على تهمة الانقلاب قد يقلل من الاهتمام بالإدانات المحتملة المتعلقة باستجابته للوباء. وقارن الوضع بمحاكمات نورمبرغ، مشيراً إلى أن النازيين أُدينوا بسبب غزوهم لبولندا، وليس بسبب جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبوها.
هذا الرأي يعكس قلقًا أوسع نطاقًا بشأن ما إذا كانت المحكمة ستتعامل بشكل كامل مع حجم الخسائر والأخطاء التي ارتكبت خلال فترة ولاية بولسونارو.
قصة عائلية مقسمة: صراع الأيديولوجيات والخسارة
قصة أورسي هي قصة العديد من العائلات البرازيلية التي انقسمت بسبب السياسة. فقد نشأ مع ابن عمه هنريكي كافالاري كأخوين، لكنهما اختلفا اختلافًا جذريًا في وجهات النظر السياسية. كان كافالاري من أشد المؤيدين لبولسونارو، ويدير ورشة لإصلاح الدراجات النارية، بينما يعتبر أورسي نفسه تقدميًا.
خلال الجائحة، أصبح كافالاري أكثر اقتناعًا بأنه لا يوجد ما يدعو للقلق، وأن إجراءات التباعد الاجتماعي تمثل تقييدًا للحريات. شارك في مسيرات دعم لبولسونارو، حتى خلال الأشهر الأكثر فتكًا للوباء، وتوفي في يونيو 2021 بسبب مضاعفات كوفيد-19، قبل أسابيع قليلة من أن يصبح مؤهلاً للحصول على لقاحه الأول.
أورسي يذكر أن ابن عمه كان بحاجة للمال، وأن الفيروس لم يكن يُنظر إليه على أنه خطير. تعكس هذه القصة كيف أثرت أيديولوجية بولسونارو على قرارات الأفراد، وكيف ساهمت في تفاقم أزمة الصحة العامة.
إرث بولسونارو: أزمة ثقة وتساؤلات حول العدالة
فابيو دي ماريا، وهو مدرس في ساو باولو، يشارك أورسي نفس الشعور بالإحباط. فقد توفي والده في مايو 2021، بعد أيام قليلة من أن يصبح مؤهلاً للحصول على جرعته الأولى من اللقاح. على الرغم من شعوره بالارتياح بسبب إدانة بولسونارو، إلا أنه لا يعتقد أنها تحقق العدالة لأولئك الذين فقدوا حياتهم بسبب كوفيد-19.
إن إدانة بولسونارو، وإن كانت خطوة مهمة، لا تمحو الألم والخسارة التي عانى منها الكثير من البرازيليين. كما أنها تثير تساؤلات حول ما إذا كان النظام السياسي قادرًا على تحمل المسؤولية عن أخطائه وتلبية احتياجات المواطنين. الأزمة المستمرة في القطاع الصحي البرازيلي و الحاجة الماسة إلى إصلاحات شاملة هي نتيجة مباشرة للسياسات الخاطئة التي اتبعتها حكومة بولسونارو في مواجهة الجائحة.
الوباء كان نقطة تحول سياسية في البرازيل، حيث كشفت عن نقاط الضعف في القيادة والتعامل مع الأزمات. وخلال حملة 2022 الانتخابية، استخدمت الإعلانات التلفزيونية لقطات لبولسونارو وهو يسخر من معاناة المرضى، مما ساهم في خسارته الانتخابات. إدواردو سكوليز، محرر الشؤون السياسية في صحيفة Folha de S.Paulo، يؤكد أن موقف بولسونارو الإنكاري تجاه الوباء هو ما دفعه إلى الهزيمة.
على الرغم من الأمر الصادر بتوقيفه، لا يزال مستقبل بولسونارو السياسي غير واضح. إلا أن إدانته تمثل رسالة قوية مفادها أن الإفلات من العقاب ليس مقبولاً، وأن أولئك الذين يسيئون استخدام السلطة ويضرون بمصالح الشعب يجب أن يُحاسبوا. وما زال مستقبل البرازيل السياسي و الاجتماعي معلقاً على تفاعلات هذه القضية وتداعياتها.

