الذكاء الاصطناعي يثير قلقاً متزايداً حول تعميق الفجوات الرقمية والاجتماعية، حيث يحذر تقرير جديد من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أن فوائد الذكاء الاصطناعي قد تتركز بشكل كبير في الدول الغنية، مما قد يؤدي إلى تفاقم التفاوتات القائمة. وبينما يلوح في الأفق وعد بتطبيقات ثورية في مجالات مثل الزراعة والرعاية الصحية، يشدد التقرير على ضرورة معالجة المخاطر المتعلقة بالوصول غير المتكافئ إلى التكنولوجيا، والمهارات، والبنية التحتية. يجب أن يكون التركيز على “الناس أولاً” وليس مجرد تبني التكنولوجيات الجديدة.
وجه آخر لثورة الذكاء الاصطناعي: تفاوتات متزايدة؟
يذكر التقرير الصادر من بانكوك أن الوضع الحالي يشبه إلى حد كبير “التباين الكبير” الذي شهدته الثورة الصناعية، حيث استفادت بعض الدول بسرعة بينما بقيت دول أخرى متخلفة. ما يميز هذه المرحلة هو السرعة الهائلة للتطور التكنولوجي و نطاق تأثيره المحتمل. يرى مايكل موثوكريشنا، المؤلف الرئيسي للتقرير من كلية لندن للاقتصاد، أن هناك ميلًا للمبالغة في التأكيد على دور التكنولوجيا نفسها، و نسيان أن العنصر الأساسي هو الإنسان وقدرته على الاستفادة من هذه الأدوات.
هذا يعني أن التحدي لا يكمن في تطوير الذكاء الاصطناعي فحسب، بل في التأكد من أنه يخدم البشرية جمعاء، وليس فقط أولئك الذين يتمتعون بالفعل بامتيازات الوصول إلى الموارد والفرص.
الفئات الأكثر عرضة للتهميش في عصر الذكاء الاصطناعي
تبرز المخاوف بشكل خاص بالنسبة للمجتمعات التي تعاني من نقص في المهارات الرقمية، والبنية التحتية الأساسية مثل الكهرباء وخدمة الإنترنت. هذه الفئات تشمل كبار السن، والنازحين بسبب الحروب والكوارث الطبيعية، وغيرهم ممن قد يجدون أنفسهم مهمشين في عالم يعتمد بشكل متزايد على البيانات.
و يشير التقرير إلى أن هؤلاء الأفراد قد يكونون “غير مرئيين” في البيانات المستخدمة لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي، مما يعني أن احتياجاتهم و ظروفهم قد لا تؤخذ في الاعتبار عند اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم. الأمر ليس مجرد نقص في الوصول، بل يتعلق بالتمثيل والإنصاف في تصميم وتنفيذ هذه التكنولوجيا.
الفرص الضائعة: إمكانات الذكاء الاصطناعي في خدمة التنمية
على الرغم من هذه المخاوف، يؤكد التقرير أن الذكاء الاصطناعي يمتلك إمكانات هائلة للمساعدة في سد الفجوات التنموية. على سبيل المثال، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتقديم مشورة زراعية أفضل للمزارعين في المناطق الريفية، وتحليل صور الأشعة السينية بسرعة ودقة لتشخيص الأمراض، والتنبؤ بالطقس وتقييم الأضرار الناجمة عن الكوارث الطبيعية.
و الأهم من ذلك، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل البيانات المتعلقة بالفقر والصحة والكوارث لتمكين اتخاذ قرارات أسرع وأكثر عدالة وشفافية. و بهذه الطريقة، يمكن تحويل البيانات إلى معلومات قيمة تساعد في تحسين حياة الناس.
مخاطر وتحديات تتجاوز الفجوة الرقمية
لا تقتصر التحديات على الوصول إلى التكنولوجيا، بل تمتد لتشمل قضايا أخلاقية و أمنية. حتى في الدول المتقدمة، تثير مراكز البيانات استهلاكًا هائلاً للكهرباء و المياه، مما قد يعيق الجهود المبذولة للحد من انبعاثات الكربون و مكافحة تغير المناخ. و بالإضافة إلى ذلك، هناك المخاطر الصحية المرتبطة بتوليد الطاقة.
كما يشير التقرير إلى التهديدات المتزايدة من الهجمات الإلكترونية التي تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لأتمتة أجزاء من العمليات الإجرامية. بالإضافة إلى ذلك، تثير قضية “التزييف العميق” (Deepfakes) مخاوف جدية بشأن انتشار المعلومات المضللة و استخدامها في أنشطة إجرامية.
التفاوت الإقليمي في تبني الذكاء الاصطناعي
لا يزال التفاوت الإقليمي في تبني الذكاء الاصطناعي كبيراً. تتمتع دول مثل الصين و اليابان و كوريا الجنوبية و سنغافورة بظروف مواتية للاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي، في حين تفتقر دول أخرى مثل أفغانستان و جزر المالديف و ميانمار إلى المهارات والبنية التحتية و الموارد اللازمة. و حتى داخل البلدان المتقدمة، تظل بعض المناطق متخلفة عن الركب بسبب نقص الاستثمار و الفرص. يقدر التقرير أن ربع سكان منطقة آسيا و المحيط الهادئ لا يزالون يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى الإنترنت.
نحو مستقبل أكثر إنصافاً للذكاء الاصطناعي
يخلص التقرير إلى أن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا لا يتجزأ من الحياة الحديثة، مثل الكهرباء و الطرق و الآن الإنترنت. و لذلك، يجب على الحكومات الاستثمار بشكل أكبر في البنية التحتية الرقمية، و التعليم و التدريب، والمنافسة العادلة، و الحماية الاجتماعية. الهدف هو “إضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى الذكاء الاصطناعي” لضمان استفادة جميع البلدان والمجتمعات، مع حماية الفئات الأكثر ضعفاً من الآثار السلبية المحتملة.
يتطلب هذا الأمر تحقيق توازن دقيق، و تقليل “الهستيريا والضجيج” المحيطين بالتكنولوجيا، و التركيز على الشفافية و التنظيم الفعال لضمان استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق عادلة و مسؤولة. إن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يعتمد فقط على التطورات التكنولوجية، بل أيضًا على قدرتنا على صياغة سياسات و استراتيجيات تضمن أن فوائده مشتركة للجميع.

