في خضم الصراع العالمي ضد الجرائم الإلكترونية، بدت مداهمة “حديقة كيه كيه” (KK Park) في ميانمار بمثابة نقطة تحول. فبعد ضغوط دولية متزايدة، تعهدت القيادة العسكرية في ميانمار بالقضاء على مراكز الاحتيال الإلكتروني واسعة النطاق التي استشرت في البلاد. لكن هل هذا التعهد يمثل بداية النهاية لهذه الصناعة الإجرامية المزدهرة، أم مجرد خدعة لإضفاء الشرعية على حكمها؟ هذا ما سنستكشفه في هذا المقال.
حملة ميانمار على مراكز الاحتيال: أكثر من مجرد عرض؟
في العشرين من أكتوبر، أعلنت وسائل الإعلام الرسمية في ميانمار عن عملية دهم واسعة النطاق في “حديقة كيه كيه”، تبعتها حملة هدم استمرت أسابيع. وفي نوفمبر، تعهد حكام ميانمار العسكريون بـ “القضاء على أنشطة الاحتيال من جذورها”. بثت وسائل الإعلام الحكومية صورًا للحطام والجنود الذين يقفون بجانب العشرات من أجهزة Starlink التي تم الاستيلاء عليها، والتي كانت تستخدم على نطاق واسع من قبل المحتالين للاتصال بالإنترنت. كما طالت المداهمات مجمع “شوي كوكو” السكني، الذي كان موضع اهتمام السلطات الأمريكية.
شركة SpaceX أعلنت بدورها عن قطع الوصول إلى أكثر من 2500 وحدة Starlink في ميانمار، بينما أعلنت شركة ميتا عن إزالة 2000 حساب على فيسبوك يُستخدم في عمليات الاحتيال ذات الصلة. بدت هذه الإجراءات بمثابة استجابة سريعة للضغوط المتزايدة، خاصة مع استعداد ميانمار للانتخابات الوطنية المثيرة للجدل، والتي يرى الكثيرون أنها محاولة لإضفاء الشرعية على الانقلاب العسكري الذي وقع عام 2021.
“حديقة كيه كيه” ليست سوى القمة
على الرغم من أن عملية الهدم في “حديقة كيه كيه” تبدو قوية، إلا أنها قد لا تكون كافية للقضاء على المشكلة بشكل كامل. فقد كشف التحليل البصري عن أن 31 مبنى فقط قد تم تدميرها بالكامل، بينما تعرض 78 مبنى آخر لأضرار جزئية. الأهم من ذلك، تشير الأدلة إلى أن العديد من المباني الأخرى لا تزال سليمة، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت هناك نية لإعادة بناء واستخدام هذه المرافق مرة أخرى.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن “حديقة كيه كيه” ليست سوى واحد من حوالي 30 مجمعًا احتياليًا على طول الحدود بين ميانمار وتايلاند. وهذا يشير إلى أن حملة القمع قد لا تكون شاملة أو طويلة الأمد كما تدعي السلطات الميانمارية.
التكيف السريع لصناعة الاحتيال
حتى بعد الإجراءات المتخذة، أظهرت صناعة الاحتيال قدرة ملحوظة على التكيف. فقد كشفت تقارير وكالة أسوشيتد برس أن مجمعين احتياليين على الأقل في المنطقة استمرا في استخدام Starlink للاتصال بالإنترنت، على الرغم من إعلان SpaceX عن قطع الخدمة.
علاوة على ذلك، أدت الأضرار التي لحقت بـ “حديقة كيه كيه” إلى تشتت آلاف العمال، الذين انتقلوا إلى شركات احتيال أخرى في ميانمار وخارجها. وقد ظهرت إعلانات وظائف على تطبيق Telegram تستهدف هؤلاء العمال النازحين، مما يسهل عليهم العثور على فرص عمل جديدة في هذا المجال الإجرامي. كما استمرت العمليات في مراكز الاحتيال الأخرى في ميانمار، حيث لا يزال الأشخاص يتعرضون للاتجار بهم من جميع أنحاء العالم.
التحديات التي تواجه القضاء على هذه الشبكات
يقول جاي كريتيا، منسق شبكة المجتمع المدني لمساعدة ضحايا الاتجار بالبشر: “حتى لو دمرت المباني، وإذا لم تقم بإلقاء القبض على رؤساء العصابات العابرة للحدود الوطنية الذين يقفون وراء ذلك، ومصادرة ثرواتهم ووضعهم في السجن، فهذه ليست حملة قمع حقيقية بعد”.
هذا يبرز التحدي الرئيسي الذي يواجه السلطات: فالشبكات الإجرامية التي تدير هذه العمليات معقدة ومتجذرة بعمق، وغالبًا ما تحظى بحماية من قبل جماعات مسلحة وقوات حرس الحدود المحلية. كما أن هناك اتهامات بأن بعض المسؤولين الحكوميين أنفسهم كانوا متورطين في هذه العمليات، مما يعيق جهود القضاء عليها.
الوضع يتجاوز ميانمار: الجرائم الإلكترونية العابرة للحدود
تُظهر صور الأقمار الصناعية أن عمليات البناء والتوسع مستمرة في العديد من مجمعات الاحتيال، حتى بعد المداهمات. كما أن هناك علامات على الاستعداد لمواجهة أي محاولات لقطع الاتصال بالإنترنت، مثل تركيب الألواح الشمسية لتوفير مصدر طاقة بديل.
تشير التحليلات إلى أن هذه المجمعات لا تقتصر على عمليات الاحتيال البسيطة، بل تشمل أيضًا أنشطة أكثر خطورة مثل غسيل الأموال والاتجار بالبشر. وتؤكد هذه التقارير على الطبيعة العابرة للحدود لهذه الجرائم، والحاجة إلى تعاون دولي فعال لمكافحتها. فقد أظهرت عمليات مماثلة في دول أخرى مثل كمبوديا، أن هذه الشبكات الإجرامية قادرة على نقل عملياتها بسرعة إلى أماكن أخرى.
مستقبل مكافحة الاحتيال الإلكتروني في ميانمار
في الختام، على الرغم من أن حملة ميانمار على مراكز الاحتيال قد بدت واعدة في البداية، إلا أنها تواجه العديد من التحديات. فالتدمير الجزئي لـ “حديقة كيه كيه” والقدرة على التكيف السريع لصناعة الاحتيال يشيران إلى أن القضاء على هذه الشبكات الإجرامية يتطلب أكثر من مجرد عمليات دهم وهدم.
يتطلب الأمر تعاونًا دوليًا، وجهودًا متواصلة لملاحقة قادة هذه العصابات، ومصادرة ثرواتهم، وتوفير الحماية للضحايا. كما يجب على ميانمار أن تعالج الأسباب الجذرية التي تسمح لهذه الصناعة بالازدهار، مثل الفساد وانعدام القانون في المناطق الحدودية.
إن مستقبل مكافحة الاحتيال الإلكتروني في ميانمار يعتمد على ما إذا كانت السلطات ستتخذ إجراءات حقيقية وشاملة، أم ستكتفي بمجرد إظهار القوة.
This story is part of an ongoing collaboration between The Associated Press and FRONTLINE (PBS) that includes an upcoming documentary.—
Contributed by AP Asia-Pacific investigative reporter Hsi-hsin Wu from Bangkok, Thailand.—
Contact AP’s Global Investigative Team at (email protected) or https://www.ap.org/tips/.

