تتجاوز مستجدات عالم العلوم والتكنولوجيا مجرد التحديثات البرمجية أو الأجهزة الأسرع مؤخرا، لتصل إلى قلب طريقة تفاعلنا مع المعلومات نفسها. أبرز هذه التحولات يتمثل في المتصفحات الذكية وأنظمة الذكاء الاصطناعي الوطنية، والتي بدأت تعيد تعريف دور الإنسان أمام التقنية وتحدي مفاهيم السيطرة الرقمية التقليدية.

المتصفح الذكي “أطلس”: من البحث إلى الفهم

في عالمٍ تهيمن عليه متصفحات مثل “غوغل كروم” منذ أكثر من عقد، ظهر متصفح جديد من “أوبن أيه آي” يُدعى “أطلس”، ليعيد صياغة تجربة التصفح تمامًا. لا يكتفي “أطلس” بعرض الصفحات أو تنفيذ الأوامر التقليدية، بل يعتمد على الذكاء الاصطناعي لفهم نية المستخدم وتنفيذ مهام معقدة من خلال المحادثة. هذا التحول يمثل نقلة نوعية من “الويب القائم على البحث” إلى “الويب القائم على الفهم”، حيث يتم جمع البيانات وتحليلها وعرض نتائج مخصصة بأسلوب يشبه المساعد الشخصي الذكي.

يؤكد مطوّرو “أطلس” أن المتصفح لم يعد مجرد أداة، بل منصة إدراكية تتعلم من المستخدم وتتكيّف مع سلوكه. ومع ذلك، تثير هذه القدرات تساؤلات حول الخصوصية وجمع البيانات، رغم أن “أوبن أيه آي” تقدم ضمانات بتحكم المستخدم عبر إعدادات واضحة ومعالجة محلية للبيانات. هذه المنافسة دفعت “غوغل” إلى دمج نموذجها “جيميناي” في “كروم”، ما يشير إلى سباق جديد يتجاوز السرعة والأداء، ليصبح حول الذكاء والفهم والسياق.

السعودية تقود الثورة الرقمية: “هيوماين” كنموذج

على صعيد آخر، أعلنت المملكة العربية السعودية في مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار” عن إطلاق شركتها الوطنية “هيوماين”، ضمن جهود “رؤية 2030″، بهدف بناء بنية تحتية ضخمة للذكاء الاصطناعي. تشمل المشاريع الاستراتيجية شراكات مع شركات مثل “إنفيديا” وAMD لتوفير آلاف الرقائق الذكية، وتعاون مع “كوالكوم” و”سيسكو” لتطوير مراكز بيانات متقدمة تصل طاقتها الحوسبية إلى ستة غيغاواط، ما يعزز السيادة التكنولوجية المحلية.

أهم ما يميز “هيوماين” هو نظام التشغيل الجديد “هيوماين وان”، الذي يعتمد على شبكة من “الوكلاء الذكيين” القادرين على فهم نية المستخدم وتنفيذ مهام معقدة ضمن بيئة موحدة. هذا النظام، المعتمد على النموذج اللغوي العربي “علام”، يتيح تفاعلاً طبيعيًا بين الإنسان والآلة، ويتميز عن الأنظمة التقليدية مثل ويندوز أو أندرويد بقدرته على فهم السياق وتقديم حلول مخصصة.

من خلال هذه المبادرات، تسعى السعودية لتقليل الاعتماد على الخوادم الأجنبية وتحقيق استقلال تقني واستراتيجي، مع موازنة دقيقة بين التعاون مع الولايات المتحدة والانفتاح على الصين، لتكون قوة فاعلة في خريطة النفوذ الرقمي العالمي.

أوروبا: الذكاء الاصطناعي القائم على القيم

بينما تركز الولايات المتحدة والصين على السرعة والأداء، تسعى أوروبا إلى نهج مختلف قائم على القيم الأخلاقية والتنظيمية. جاء القانون الأوروبي للذكاء الاصطناعي لتصنيف الأنظمة حسب مستوى المخاطر، مع الالتزام بالشفافية وحماية الخصوصية، مما يجعل الاتحاد الأوروبي يطرح نفسه كـ”حكم الملعب” في العالم الرقمي، لا من خلال حجم البيانات أو سرعة المعالجة، بل من خلال قواعد واضحة تضمن العدالة والمساءلة.

يتبع الاتحاد الأوروبي ما يعرف بالبراغماتية الأخلاقية، حيث يدعم الشركات الصغيرة بالحوافز الحكومية ويلزم الشركات الكبرى بالشفافية المعتدلة، مع محاولة تصدير معاييره عبر الاتفاقيات التجارية العالمية. هذا التوجه يعكس سعي أوروبا لتحقيق السيادة الرقمية مع الحفاظ على هويتها وقيمها التاريخية، في توازن بين التقدم التقني والمسؤولية الأخلاقية.

هشاشة البنية التحتية الرقمية

بينما تتقدم التقنيات، تكشف الأعطال الرقمية عن نقاط ضعف البنية التحتية. فقد تسبب عطل عالمي في خدمات “أمازون ويب سيرفيسز” (AWS) في أكتوبر 2025 بتوقف آلاف التطبيقات والخدمات حول العالم، من “سناب شات” و”ريديت” إلى تطبيقات مصرفية وشركات طيران، ما أظهر اعتماد البشرية على عدد محدود من مراكز البيانات الضخمة. هذا الحدث سلط الضوء على الحاجة إلى مراكز بيانات وطنية، وحلول لامركزية، واستخدام الذكاء الاصطناعي لتوقع الأعطال قبل وقوعها.

في النهاية

عصر الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي يضع الإنسان في قلب تجربة التكنولوجيا، حيث تعتمد المتصفحات والأنظمة الذكية على فهم نية المستخدم بدل البحث التقليدي. في الوقت نفسه، تكشف الأعطال الرقمية عن هشاشة البنية التحتية، ما يؤكد أهمية التخطيط القوي والموثوقية. المستقبل سيكون لمن يوازن بين الابتكار، الأمان، والقيم الأخلاقية، ليصبح التقدم التقني مستدامًا وذكيًا.

شاركها.
Exit mobile version