تأتي الاحتجاجات الأخيرة في إيران لتؤكد حالة الغليان الشعبي المتصاعدة، وتضع الضوء مرة أخرى على وضع حقوق الإنسان والقيود الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها الشعب الإيراني. وفي تعليق مؤثر، صرّح المخرج الإيراني الحائز على جوائز، جعفر بناهي، أن هذه الاحتجاجات تهدف إلى “تحريك التاريخ إلى الأمام”. هذا التصريح، الذي جاء في خضم التظاهرات، يلقي الضوء على أعماق الإحباط والأمل الذي يغذّي هذه الحركة.
احتجاجات إيران: نبض الشارع ورؤية جعفر بناهي
بدأت الاحتجاجات بشكل عفوي يوم الأحد في طهران، وتحديداً في أكبر سوق للهواتف المحمولة، حيث أغلق التجار محلاتهم تعبيراً عن استيائهم من الركود الاقتصادي والتضخم المرتفع الذي يهدد سبل عيشهم. سرعان ما تصاعدت وتيرة الاحتجاجات، وانضم إليها طلاب من عشر جامعات في العاصمة ومدن أخرى، بما في ذلك أرقى المؤسسات الأكاديمية في البلاد. يمثل هذا الانتشار الجغرافي والاجتماعي للاحتجاجات مؤشراً قوياً على نطاق السخط الشعبي.
بناهي، المعروف بفيلمه الحائز على جائزة أفضل فيلم في مهرجان كان السينمائي هذا العام “هنا مجرد حادث”، والذي حصل أيضاً على ترشيح لجوائز الأوسكار، وصف هذه الاحتجاجات بأنها “ألم مشترك تحول إلى صرخة في الشارع”. وأضاف عبر حسابه على إنستغرام: “عندما لا يبقى شيء نخسره، يزول الخوف. تتوحد الأصوات، وتنكسر الصمت، ولا عودة إلى الوراء”.
هذه الكلمات، التي تعكس تجربة بناهي الشخصية في مواجهة القيود والرقابة، تعبر عن المعتقد الراسخ بأن هذه المرة مختلفة، وأن هناك إرادة قوية للتغيير. وشدد بناهي على أن “هذا الانتفاضة هي إرادة مصممة على البقاء، والمضي قدماً، وتحريك التاريخ إلى الأمام.”
دوافع الاحتجاجات: اقتصاد متدهور وحريات مقيدة
يمكن إرجاع جذور الاحتجاجات الراهنة إلى عدة عوامل متداخلة. على رأس هذه العوامل، يأتي الوضع الاقتصادي المزري الذي يعاني منه الإيرانيون. يشهد الاقتصاد الإيراني تدهوراً مستمراً بسبب العقوبات الدولية، وسوء الإدارة، والفساد المستشري. التضخم المرتفع، وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، وانخفاض قيمة العملة المحلية، كلها عوامل تزيد من الضغط على المواطنين وتدفعهم إلى الشارع للمطالبة بتحسين ظروفهم المعيشية.
بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية، هناك شعور متزايد بالإحباط بسبب القيود الاجتماعية والسياسية المفروضة على الإيرانيين. حقوق الإنسان في إيران موضوع جدلي، حيث تواجه السلطات انتقادات واسعة النطاق بسبب قمع المعارضة، والقيود المفروضة على حرية التعبير، والمعاملة القاسية للمحتجزين.
ولا يمكن تجاهل تأثير الاحتجاجات السابقة، وعلى رأسها تلك التي اندلعت في عام 2022 عقب وفاة مهسا أميني، الشابة الإيرانية التي اعتقلت بتهمة انتهاك قواعد اللباس. على الرغم من أن الاحتجاجات الحالية لم تصل بعد إلى حجم التظاهرات التي أعقبت وفاة أميني، إلا أنها تحمل في طياتها بذرة التغيير نفسها.
التدخلات الخارجية والوضع الجيوسياسي
أثارت الاحتجاجات في إيران اهتماماً واسعاً على الصعيد الدولي، وشهدت بعض التدخلات الخارجية غير المباشرة. فقد أعلنت وكالة المخابرات الإسرائيلية (الموساد) عبر وسائل التواصل الاجتماعي أنها “معكم على الأرض”، في رسالة دعم للمحتجين الإيرانيين. يأتي هذا الدعم في إطار التوتر المتزايد بين إسرائيل وإيران، وهما العدوان الرئيسيان في المنطقة.
هذا النوع من التصريحات يضيف بعداً آخر للوضع، ويمكن استخدامه من قبل السلطات الإيرانية لتبرير قمع الاحتجاجات، واتهام جهات خارجية بالتحريض على الفوضى وعدم الاستقرار.
بناهي بين السجن والسينما: صوت معارض لا يزال يتردد
الوضع الذي يواجهه جعفر بناهي يعكس أيضاً الضغوط التي يمارسها النظام الإيراني على الفنانين والمثقفين المعارضين. قد حُكم عليه بالسجن لمدة عام بتهمة “الأنشطة الدعائية” ضد الجمهورية الإسلامية. ورغم ذلك، يواصل بناهي عمله السينمائي، حيث قام بتصوير فيلمه الأخير في إيران بشكل سري، دون الحصول على تصريح رسمي.
يتناول فيلمه الأخير قصة خمسة إيرانيين عاديين يواجهون رجلاً يعتقدون أنه سجانهم السابق. هذا العمل السينمائي، الذي يمثل تحدياً سافراً للسلطات، يوثق بشكل فني وجريء التجارب المؤلمة التي عاشها الإيرانيون تحت حكم النظام. حتى في خضم هذه التحديات، أكد بناهي على نيته بالعودة إلى إيران على الرغم من التهديدات التي تواجهه.
مستقبل الاحتجاجات: هل تتحول إلى تغيير حقيقي؟
من الصعب التنبؤ بمستقبل الاحتجاجات في إيران. قد تنجح السلطات في قمعها، كما فعلت في الماضي، أو قد تتوسع وتتحول إلى حركة شعبية واسعة النطاق قادرة على إحداث تغيير حقيقي.
ما قاله جعفر بناهي يعكس أملاً قوياً في أن هذه المرة ستكون مختلفة. فالاحتجاجات الحالية تأتي في لحظة تاريخية، حيث يواجه الشعب الإيراني أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة. الحراك الشعبي المتصاعد، والإرادة القوية للتغيير، قد تكونان بمثابة نقطة تحول في تاريخ إيران.
يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستتمكن إيران من تجاوز هذه الأزمة، وبناء مستقبل أكثر حرية وعدالة وازدهاراً؟ وما هو الدور الذي سيلعبه الفنانون والمثقفون، مثل جعفر بناهي، في هذا التحول؟ من المؤكد أن هذه الاحتجاجات ستبقى محفورة في الذاكرة الإيرانية، وستستمر في إلهام الأجيال القادمة.

