ماثيو باريس ليس مجرد اسم على صفحة الرأي. وهو صحفي وسياسي سابق ترك حزب المحافظين ليصبح كاتب عمود منتظم في شارع فليت.
وهو كاتب لا يكرر خطاب الهيمنة، بل يفضح فشل السياسات الغربية ويدافع عن الموقف الأخلاقي أينما كان.
ويعرف المطلعون على مسيرته المهنية أنه بدأ مسيرته في البرلمان، في صفوف المحافظين، قبل أن يصبح صحفياً ومعلقاً سياسياً، يكتب بصرامة شخص يعرف خصوصيات صنع القرار وعمومياته وبحس أخلاقي لا هوادة فيه.
باريس هو أحد الأصوات البريطانية النادرة التي لا تقرأ العالم العربي بشكل سطحي، ولا تستعير نظارات السائح الذي يرى الصراع كصور عابرة على شاشات الأخبار. فهو يكتب بفهم عميق وشجاعة نادرة في فضح زيف السياسات الغربية، وبحيادية تميزه عن القطيع.
أو كما يجسد باريس لآلان روسبريدجر، رئيس تحرير مجلة احتمال مجلة، وهي عبارة عن مفهوم أورويل تقريبًا للهوية البريطانية – وتعني هنا “الأورويلية” بالمعنى الذي اقترحه جورج أورويل في مقالته “الأسد ووحيد القرن”، وليس بالمعنى البائس لرواية 1984.
وفي مقالته الشهيرة بعنوان “ليس لدى بريطانيا أدنى فكرة عما تفعله في الشرق الأوسط”، كتب باريس أن العراق لم يعد أكثر من ساحة قتل للعراقيين، في حين وعد بوش وبلير بلد الرافدين بالحرية بحجة حرب ستجلب الحرية، بحسب تعريف دونالد رامسفيلد.
“العراق وليبيا وأفغانستان وسوريا ومصر… سجل من الفشل يكفي لندرك أننا يجب أن نترك الأمور وشأنها”.
ولم تكن هذه مجرد قراءة لسجل من الأخطاء، بل كانت بمثابة صرخة ضمير: فالسياسة التي لا تعرف ماذا تفعل لا ينبغي لها أن تفعل أي شيء على الإطلاق.
اقرأ: ماليزيا والبرازيل تعلنان دعمهما لقضية الإبادة الجماعية في جنوب إفريقيا ضد إسرائيل
فحين رفض حرب العراق، لم يكن يكرر شعاراً رومانسياً مناهضاً للحرب، بل كان يبدأ من فرضية بسيطة: لا يمكن فصل الأخلاق عن النفعية. فإذا لم تكن هناك قدرة على البناء، فإن إسقاط الأنظمة بالقوة يتحول إلى خراب مكشوف. وهذا الاستنتاج، الذي تجاهله توني بلير وجورج بوش، يفسر الخراب والفشل السياسي الذي شهده العراق لعقود من الزمن بعد ذلك.
واليوم، بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على تلك الحرب، يعود ماثيو باريس في مقالته الأخيرة ليكتب عن حكومة بنيامين نتنياهو، التي تظهر غطرسة واحتقاراً للقانون الدولي في حرب الإبادة التي تشنها في غزة، قائلاً: “يجب على المجتمع الدولي أن يفرض عقوبات فعالة ويحث الإسرائيليين على تغيير حكومتهم الفاسدة”.
ولغته لا تقل وضوحا عن لغته القديمة. المبدأ واحد: موقف أخلاقي لا هوادة فيه، يرى في سياسة التستر على جرائم الاحتلال ليس سياسة، بل تواطؤ.
هذا الاتساق هو ما يجعل باريس نموذجًا نادرًا. فهو لا يرفض التدخل العسكري فحسب، بل يسعى إلى إيجاد بدائل سياسية ومدنية. وكما رفض حرباً كان يعلم أنها ستفتح أبواب الجحيم في بغداد، فهو اليوم يدعو إلى فرض العقوبات كوسيلة للضغط على الحكومة التي تواصل ارتكاب الانتهاكات الصارخة. وهذا ليس ازدواجية، بل هو خط ثابت من التفكير: فالسياسة الأخلاقية لا تعني الانفعالية، بل تعني الالتزام بوسائل واقعية تدعم المعايير الإنسانية.
لكن الأهم من ذلك هو أن باريس يكشف لنا حقيقة كثيرا ما نتجاهلها: وهي أن الغرب ليس كتلة واحدة مهيمنة. في قلب الصحافة البريطانية أصوات صادقة تؤكد بوضوح أن العالم العربي يعاني من الدمار ليس فقط بسببه، بل أيضاً بسبب التدخلات الأميركية والغربية التي شنت سلسلة من الحروب غير المدروسة. العراق، أفغانستان، ليبيا، سوريا.. أسماء أصبحت أمثلة على الدمار المستمر.
وحين يكتب باريس عن هذه المآسي، فإنه لا يكتب كمدافع عن العرب من منطلق التعاطف الخارجي، بل كإنسان يواجه ضميره. وهنا يكمن تفرده: فهو ليس صوتاً يزين خطاب الهيمنة، بل استثناء يفضحه من الداخل.
ويقول في مقالته الأخيرة: “نحن الذين نشعر بالرعب من هذا الدمار يجب أن ندعم العقوبات الفعالة ونحث الإسرائيليين على تغيير حكومتهم”.
وهنا، يحول باريس الصدمة إلى عمل سياسي ملموس. وهو يقترح أداة محددة – العقوبات – كبديل عملي للإدانة الفارغة أو الحلول العسكرية. إن اختيار كلمة “فعالة” أمر مهم: ليس العقوبات الرمزية، بل الضغوط التي تحدث فرقاً في القدرة السياسية للحكومة المستهدفة. يضع هذا النهج باريس في معسكر الكتاب الغربيين الذين يربطون البوصلة الأخلاقية بالوسائل الواقعية.
كما أعرب عن خيبة أمله لأنه لا يوجد أمل في غزة طالما بقي نتنياهو في السلطة.
اقرأ: حماس توافق على تعيين أمجد الشوا رئيسا للجنة التكنوقراط في غزة
وهي عبارة قصيرة، ولكنها تحمل حكماً شاملاً؛ فهو ليس مجرد انتقاد للسياسة، بل استنتاج مفاده أن الحكومة نفسها تشكل عقبة أمام أي حل إنساني أو سياسي. ويقترح باريس آلية مدنية واضحة ــ العقوبات ــ بدلا من الحل العسكري، موضحا أن الأخلاق يجب أن تصاحب العمل الواقعي.
إن هذه القراءة المتسقة لمقاليه ــ رفض حرب الاحتلال في العراق والدعوة إلى فرض عقوبات على إسرائيل ونتنياهو ــ تكشف عن خيط واحد: ألا وهو أن المعايير الأخلاقية يجب أن تكون مصحوبة بفعالية سياسية. وعندما يرفض الحرب لأن نتائجها كارثية، فهو لا يرفض أي ضغط على أي دولة؛ بل يدعو إلى ممارسة ضغط مدني فعال.
دعوات باريس لا تأتي من فراغ. شهد العام 2025 إجراءات فعلية اتخذتها بعض الحكومات الغربية ضد شخصيات إسرائيلية متهمة بالتحريض على الإبادة الجماعية، فيما استمرت الانتهاكات المروعة في غزة، مثل منع سفر بعض الوزراء والقادة. وهذا يدل على أن النقاش حول “العقوبات كأداة سياسية” بدأ يتحول من فكرة إلى سياسة. إن ربط الدعوة الصحفية بالعمل الدبلوماسي العملي يعزز حجتنا: هناك أصوات في الغرب ليست انتقادية فحسب، بل تمارس أيضا ضغوطا على ساحة صنع القرار السياسي.
وقد أثار مقاله الأخير جدلاً واسع النطاق، لأن كاتباً محافظاً سابقاً يدعو إلى فرض عقوبات صارمة يعطل الخطاب التقليدي. إن التحول في الرأي العام الغربي قد يفتح المجال لضغوط دبلوماسية حقيقية على السياسات الوحشية التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية والتي تدمر الحياة المدنية.
لماذا يجب علينا كقراء ومتابعين عرب أن نهتم بماثيو باريس؟ لأنه يجسد درسين: الغرب ليس كتلة واحدة؛ هناك أصوات انتقادات صادقة من الداخل. النقد الحقيقي يربط الأخلاق بالآليات؛ فهو لا يدين فقط.
وعندما يدعو باريس إلى فرض عقوبات “فعّالة” ضد الحكومة الإسرائيلية التي ينظر إليها المجتمع الدولي على أنها السبب في الكارثة الإنسانية في غزة، فإنه يقدم شهادة داخلية ذات قيمة استراتيجية وأخلاقية. وعلينا أن نقرأ هذه الشهادة بجدية، وأن نبحث في خطابهم عن الأدوات التي يمكن ترجمتها إلى عمل دولي يخفف من معاناة المدنيين.
في النهاية، ماثيو باريس ليس بطلاً، لكنه شاهد صادق. ولأن الشهادة في زمن الفوضى السياسية تصبح عملاً أخلاقياً ممتازاً، فإن صوته يستحق أن يُقرأ باللغة العربية. ليس كمجرد كاتب غربي، بل كصديق في المعركة من أجل الحقيقة.
اقرأ: دول جنوب شرق آسيا تدعم خطة ترامب بشأن غزة وتحث على “سلام دائم”
الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.

