إن مطالبة إسرائيل المنظمات الإنسانية بالاعتراف بها باعتبارها “دولة يهودية” والتخلي عن القانون الدولي قبل تسليم المساعدات إلى غزة لا يشكل عملاً على الثقة ـ بل هو اعتراف بالخوف. ولا توجد دولة شرعية تجعل وجودها شرطاً لإطعام أطفالها.

إن الدولة الآمنة في شرعيتها لا تحتاج إلى الاعتراف بها قبل السماح بوصول الغذاء والدواء إلى الجياع. كما أن الدولة التي تعيش في سلام مع نفسها لا تجبر العاملين في المجال الإنساني على التوقيع على تعهدات سياسية قبل تسليم المساعدات. إن ما تفعله إسرائيل في غزة اليوم ليس تعبيراً عن القوة؛ إنه اعتراف بالضعف.

منذ إعلان وقف إطلاق النار الهش في أكتوبر 2025، استبدلت إسرائيل القصف بالبيروقراطية، وفرضت شكلاً جديدًا من العقاب الجماعي: الابتزاز الإنساني. كل شاحنة، وكل شحنة من الأدوية أو مواد الإيواء، تمر الآن عبر نقطة تفتيش سياسية، وتخضع لفحص أيديولوجي غير مسبوق في الممارسة الإنسانية الحديثة.

ومن بين المطالب أن تعترف وكالات الإغاثة علنًا بإسرائيل باعتبارها “دولة يهودية” وتتخلى عن التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. وفي الواقع، فإن إسرائيل تجبر المنظمات الإنسانية على التخلي عن القانون الدولي مقابل السماح لها بالوصول إلى الموتى.

وهذا ليس سلوك دولة واثقة. إنه سلوك قوة مسكونة بسجلها الخاص، تسعى جاهدة إلى تحويل أعمال الإغاثة إلى شكل من أشكال الغفران. وتحاول إسرائيل استخدام المساعدات الإنسانية كغطاء لتبرئة العالم، وإجبار العالم على إقرار أيديولوجيتها مقابل الخبز والماء والدواء.

إن عبارة “الدولة اليهودية” ليست تعبيراً محايداً عن القومية. إنه مشروع إقصائي، وبنية عرقية قومية تتناقض مع الواقع التاريخي لفلسطين، الأرض التي جسدت التعايش على مدى قرون.

قبل أن تسعى الصهيونية إلى فرض الهيمنة الديموغرافية من خلال الحصار والطرد، كانت فلسطين مجتمعاً تعددياً – أغلبية مسلمة تعيش جنباً إلى جنب مع المجتمعات المسيحية واليهودية في كرامة وسلام.

إن هوس إسرائيل بالاعتراف بها كدولة ذات تعريف عرقي يكشف عن قلق عميق. الدولة الواثقة في هويتها لا تستجدي العالم أن يصادق عليها. إن المطالبة بالاعتراف الأيديولوجي كشرط لوصول المساعدات الإنسانية ليس عملاً من أعمال السيادة – بل هو عمل من أعمال انعدام الأمن.

اقرأ: الأمم المتحدة تقول إن دخول المساعدات إلى غزة لا يزال محدودًا من قبل إسرائيل، ولا يوجد وصول مباشر إلى الشمال أو الجنوب

كما تصطدم هذه المطالب بشكل مباشر بأبسط المبادئ الإنسانية. إن الحياد والاستقلال وعدم التحيز ليست قيما اختيارية؛ فهي الأسس القانونية للعمل الإنساني. ويفرض القانون الإنساني الدولي تقديم الإغاثة دون عوائق للمدنيين المحتاجين، ويحظر صراحة ربط هذه الإغاثة بالولاء السياسي أو الأيديولوجي.

إن مطالبة وكالات الإغاثة بالتخلي عن المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية – أي التنصل من أدوات المساءلة ذاتها – يعني تحويل العمل الإنساني إلى اختبار للولاء، وتجريده من شرعيته وغرضه الأخلاقي.

ويعكس مثل هذا السلوك خوفاً مؤسسياً عميقاً: الخوف من العدالة، والخوف من المساءلة، والخوف من الإجماع العالمي المتنامي على أن ما يتكشف في غزة ليس “صراعاً” بل عملاً مطولاً من أعمال التدمير والإبادة الجماعية.

إن هوس إسرائيل بإسكات كل إشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية إنما يدل على وعيها بأنها ليست محصنة ضد الملاحقة القضائية. وكلما علت ادعائها بأنها فوق القانون، كلما كشفت بوضوح أكبر عن رعبها من مواجهته.

إن معاناة غزة اليوم لا تقاس بالقنابل فحسب، بل أيضاً بالحرمان المنهجي من الحياة ذاتها ـ بحجب الأدوية، وتأخير الملاجئ، وترشيد الغذاء من خلال السيطرة السياسية. والآن تقتل إسرائيل ببطء، من خلال الأوراق والإجراءات، وتلبس الهيمنة لغة “الأمن”.

فإذا قامت إحدى جماعات المقاومة الفلسطينية باحتجاز جثة أسير إسرائيلي واحد، فإن الغضب العالمي سوف يصم الآذان. ولكن عندما تحتجز إسرائيل شعباً كاملاً من السكان كرهائن ــ وتحرمهم من الغذاء والدواء والكرامة ــ فإن العالم ينظر بعيداً. وهذا الصمت ليس حيادًا؛ إنه تواطؤ.

غزة لا تطلب صدقة. ويطالب شعبها بالحق في العيش بحرية، وإعادة بناء منازلهم دون إذلال أو شروط سياسية مسبقة. فالمسألة لا تتعلق بالمساعدات، بل بالحرية والعدالة والحق في الوجود دون إكراه.

والمطلوب بسيط: رفع الشروط السياسية المفروضة على وصول المساعدات الإنسانية؛ وفتح المعابر لإغاثة مستدامة ويمكن التنبؤ بها؛ واستعادة عمليات الإجلاء الطبي والإمدادات الحيوية؛ ودعم التحقيقات المستقلة دون تخويف. وأي شيء أقل من ذلك يعيد استخدام نفس خطاب “الأمن” لإدامة القهر.

إن أكثر ما يخشاه قادة إسرائيل اليوم ليس الهزيمة العسكرية، بل الحساب الأخلاقي. الحساب بالقانون والدليل والحقيقة. والابتزاز الذي يمارسونه تحت شعار «الأمن» هو هزة قوة مذنبة تحاول شراء الوقت.

إسرائيل لا تظهر قوتها؛ فهو يكشف الضعف. إن الدولة الآمنة في شرعيتها لن تخشى محاكم العدل، ولن تحتاج إلى إرغام العالم على الاعتراف بما تدعيه. أولئك الذين يخشون الحقيقة اعترفوا بها بالفعل، وأولئك الذين يطالبون بالاعتراف بوجودهم كشفوا بالفعل عن هشاشتهم.

رأي: حرب السودان: كيف تقود إمبراطورية الذهب لحميدتي البلاد نحو الانقسام

الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.


الرجاء تمكين JavaScript لعرض التعليقات المدعومة من Disqus.
شاركها.
Exit mobile version