لقد عاش شعب قطاع غزة عامين من الإبادة الجماعية غير المسبوقة في تاريخ الحروب، والتي خلفت أكثر من سبعين ألف قتيل، وعشرات الآلاف من الجرحى والمشوهين، وتحولت المنطقة نفسها إلى أنقاض. ووسط هذا الدمار، ظهر عدد قليل من الأفراد عديمي الضمير. وكانوا من العملاء الذين ساعدوا المحتل في القتل والنهب والاختطاف. لقد كانوا أيضًا من المستفيدين من الحرب، ولم تكن جرائمهم أقل دناءة، حيث كانوا يخزنون السلع الأساسية ويبتزون الجياع بأسعار باهظة.

ويبين التاريخ، سواء كان قديما أو حديثا، أنه عندما تنتهي الحروب، يتخلى العدو بسرعة عن عملائه لمصيرهم. وهذا على وجه التحديد ما فعلته إسرائيل في الدقائق الأولى من وقف إطلاق النار، تماماً كما فعلت مع جيش لبنان الجنوبي عندما انسحبت من جنوب لبنان في عام 2000.

لم يكن هناك، بكل المقاييس، سوى بضع مئات من المتعاونين والمنتفعين. وعلى الرغم من حجم جرائمهم، إلا أن القصاص في غزة كان محدودًا، حيث تم إعدام عدد قليل من المتورطين بشكل مباشر في عمليات القتل بعد محاكمات ميدانية. ولم يكن هناك انتقام كاسح، بل صبر وكرامة تغلب على الألم.

ولا يهدف هذا إلى تبرير عمليات الإعدام بإجراءات موجزة، بل لتفسير الظروف غير العادية لمجتمع ممزق يخرج من دمار غير مسبوق، حيث تشتعل المشاعر ويصعب العثور على ضبط النفس. وبالمقارنة، فإن عملية التطهير الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أطلق عليها الفرنسيون اسم “التطهير الوحشي”، شهدت مقتل الآلاف دون محاكمة. تم حلق رؤوس النساء المتهمات “بالتعاون الأفقي” مع الجنود الألمان وتعرضن للإهانة العلنية.

فالحروب تمزق دائمًا النسيج الاجتماعي، حيث يستهدف المحتل الشبكة المجتمعية لتحقيق أغراض عسكرية. غزة ليست فريدة من نوعها في هذا؛ وحدتها غير المسبوقة خلال عامين من الإبادة الجماعية جعلتها هدفًا خاصًا. استخدمت إسرائيل كل الأساليب الملتوية لتمزيقها، فنشرت الشائعات، وشكلت عصابات عن طريق الرشوة أو الترهيب، حتى أنها دعت عائلات بأكملها وشيوخ العشائر وشيوخها للمطالبة بالتعاون تحت التهديد بقصف منازلهم.

ففي 27 سبتمبر/أيلول 2025، على سبيل المثال، اتصلت المخابرات الإسرائيلية هاتفياً بأفراد من عائلة بكر في مخيم الشاطئ غرب غزة، ووعدتهم بالسلامة إذا شكلوا ميليشيا على غرار عصابة أبو شباب في رفح. رفضت الأسرة؛ وقُصفت منازلهم فجراً، مما أدى إلى مقتل تسعة أشخاص، بينهم نساء وأطفال.

اقرأ: “فقط المرضى والملتويون يشوهون الجثث ويعتدون عليها” – ماذا سيقول ترامب الآن؟

واستغلت الصحف والنشرات الغربية الإعدامات الميدانية الفردية ومداهمات العملاء لإحياء الرواية التي أطلقتها إسرائيل في بداية هجومها والتي زعمت أن “هؤلاء هم المتطرفون الشبيهون بداعش الذين حذرناكم منهم، وما حدث يثبت قصتنا”. وفي خضم الكارثة الإنسانية، كانت هذه الحادثة الوحيدة هي ما أثار اهتمامهم. وبدلاً من الاندفاع لدخول غزة بعد عامين من المنع ورؤية الدمار بأم أعينهم، عادوا إلى دورهم المعتاد في اختطاف الحقيقة لتشويه سمعة الضحايا.

إن نفاقهم وهوسهم في شيطنة سكان غزة من أجل تصوير الاحتلال والمتعاونين معه على أنهم “أبرياء”، أعماهم عن رؤية أطنان المتفجرات التي حولت غزة إلى رماد، وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى والنازحين والجياع. لقد ركزوا على حادثة واحدة لأنه يمكن جعلها تحاكي مقاطع فيديو قطع الرؤوس والإعدامات التي قام بها داعش في العراق وسوريا والتي صدمت العالم ذات يوم.

وكانت منصات التطبيع والصحف والقنوات التلفزيونية العربية، التي روجت ودعمت منذ البداية رواية الاحتلال، الأكثر حرصا على تصوير الحدث على أنه عمل “داعشي”، يؤجج نار الفتنة ويؤجج السكان للصراع الداخلي. واللافت أن هذه المنافذ استضافت زعماء عشائر وشيوخ من قطاع غزة في برامجها، ظنا منهم أنهم سيوافقون على روايتها التي تصف المجرمين بـ”المعارضة” والمدنيين الأبرياء. وبدلاً من ذلك، قام هؤلاء القادة بتحطيم الرواية ودحضها، موضحين خطورة هذه العصابات والجرائم التي ارتكبتها.

وتجاهلوا العناصر الحقيقية الشبيهة بداعش داخل جيش الاحتلال، الذين صوروا أنفسهم بكل فخر وهم يفجرون مجمعات سكنية بأكملها، بينما اعتقلوا المئات وحشروهم في الملاعب والحفر المفتوحة، ثم نقلوهم إلى السجون لإخفائهم قسراً. وبعد إطلاق سراح بعضهم، خاصة بعد الاتفاق الأخير، روى هؤلاء قصصاً مرعبة عن التعذيب، حيث أصيب بعضهم بإعاقات دائمة، والبعض مات في إعدامات ميدانية بدم بارد. ورأينا الجثث التي سلمها المحتل تظهر عليها علامات التعذيب الوحشي، وكانت الحبال مربوطة حول أعناقها، وفي بعض الحالات سُرقت أعضائها.

والحقيقة المرة أننا نجد أنفسنا مضطرين إلى تسليط الضوء على مشاهد معينة من المجزرة لإثبات أن هؤلاء هم الدواعش الحقيقيون، وحتى أسيادهم، وذلك لمواجهة الدعاية الكاذبة. لقد استقر في أذهان الناس أن القتل بالذبح بالسكين أو بإطلاق النار من مسافة قريبة هو ما يسمى بالقتل “بدم بارد”، وهي جريمة لا تغتفر. ولكن ماذا عن القتل بالقصف لمدة عامين، وضرب مجمعات سكنية بأكملها بشكل جماعي، مما يؤدي إلى مقتل النساء والأطفال، وتمزق أجسادهم وإحراقها؟ هل هذا القتل “بدم حار”؟ هل المهم طريقة القتل وليس النتيجة؟

تباً للدعاية التي زرعت في أذهان السذج فكرة أن فعلاً يختلف عن الآخر. ومن استعد نفسياً لإلقاء أطنان من القنابل على المدنيين وقتل النساء والأطفال وتدمير المنازل والمدارس والمستشفيات، لا يختلف عن من يستخدم سكيناً أو بندقية للقتل. كلا الفعلين يعبران عن نفس النية الإجرامية، وعلى استعداد متساوٍ للقتل بالقصف أو إطلاق النار أو الذبح.

اقرأ: ما يسمى بخطة ترامب للسلام لا تقدم العدالة ولا السلام

والمفاجأة الحقيقية جاءت من تصريحات ترامب التي أسكتت الجميع. وأعرب عن ارتياحه لما حدث، قائلا إنه هو من سمح لها بمواجهة “العصابات الخطيرة”، مضيفا أنه “لم يجد الأمر مثيرا للقلق بشكل خاص”. وأشار كذلك إلى أن الوضع يذكره بما حدث في دول أخرى، مثل فنزويلا، حيث تعاملت الولايات المتحدة مع العصابات الفنزويلية، التي أرسل بعضها إلى أمريكا، بنفس الطريقة.

وفي جميع الأحوال فإن الإعدامات الميدانية غير مقبولة تحت أي ظرف من الظروف. ويجب أن يحظى كل متهم بمحاكمة عادلة وفقاً لمقتضيات القانون، مهما كانت خطورة جريمته. ويجب ألا تسيطر الانفعالات والغضب عند التعامل مع من ألحقوا الأذى بالمجتمع، سواء في زمن السلم أو الحرب.

إن الانضباط والالتزام بسيادة القانون هما ما يميز موظفي إنفاذ القانون عن المجرمين ويقدمان صورة مشرقة للمجتمع باعتباره متحضرًا ومتماسكًا، لا يتزعزع بسبب تصرفات هؤلاء الأفراد.

وأخيرا، وتحية للتضحيات الجسام التي قدمها الشعب الفلسطيني طوال عامين من الإبادة، لا بد من تجنب أية أعمال يمكن استخدامها لتزييف الواقع أو الوعي أو تشويه الحقيقة. نريد أن تروى قصة التضحية والبطولة أثناء الإبادة دون أي عيب، وبشكل يعبر عن وحشية الاحتلال وكل من تعاون أو تآمر معه.

الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.


الرجاء تمكين JavaScript لعرض التعليقات المدعومة من Disqus.
شاركها.
Exit mobile version