منذ بداية الحرب الهمجية على قطاع غزة، يعتقد كثيرون أن الموقف التركي لم يرق إلى المستوى الذي كانوا يأملونه، ومع مرور الوقت، تعالت أصوات محبي الرئيس رجب طيب أردوغان مطالبين باتخاذ إجراءات أكثر حسماً لقمعه. تؤخذ مع دولة الاحتلال. وكان الرد الدائم أن تركيا فعلت وتقدم كل ما في وسعها، انطلاقاً من ظروف المرحلة الراهنة محلياً ودولياً، خاصة وأن تركيا اتخذت عدة قرارات تدريجية منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي.

والحقيقة هي أن قرار تركيا الأخير بتعليق تجارتها تماما مع إسرائيل جاء متأخرا، وبغض النظر عن كونه تعديلا في المسار بعد الخسارة الكبيرة التي مني بها الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية، إلا أنه كشف عن أن هناك خطوات أكثر حسما يمكن اتخاذها. لردع الهمجية الصهيونية، وأن محبي النظام التركي كانوا يقدمون نصائح صادقة تعبر عن مشاعر فئات كبيرة من الجماهير التركية التي طالما دعمت الرئيس في صناديق الاقتراع في العديد من الانتخابات السابقة. وبينوا أن أصحاب الأصوات العالية أربكوا صانع القرار وتسببوا في هزيمة انتخابية كبيرة للحزب الحاكم. ولعل ذلك الدرس القاسي سيكون مفيداً للطرفين، أولئك الذين يهتفون ويمدحون الأنظمة بشكل مستمر، وللأنظمة التي تبتلع تلك الهتافات والمديح دون قراءة أكثر تعمقاً لمشاعر الجماهير العريضة، مما يجعلها تنال فيما بعد في ورطة.

رأي: يقول خبير إن قطع كولومبيا علاقاتها مع إسرائيل أمر شجاع في عالم جبان

جدير بالذكر، في هذا السياق، أن النظام التركي قد اتخذ بالفعل بعض الإجراءات لمعاقبة الكيان الصهيوني، فمع اندلاع الحرب، أوقفت الخطوط الجوية التركية رحلاتها إلى إسرائيل، وفي الشهر نفسه، تم التعاون التركي الإسرائيلي في مجال وتم تعليق حقل الطاقة، بينما ألغيت زيارة وزارية تركية كانت مقررة مسبقاً إلى تل أبيب.

وفي يناير الماضي، استبعدت تركيا إسرائيل من وجهات التصدير المستهدفة بينما رفعت الدعم عن الشركات المصدرة إلى إسرائيل. وجاءت أقوى القرارات في أبريل/نيسان الماضي عندما فرضت تركيا قيودا على تصدير 54 سلعة إلى إسرائيل، وطالبت بالوقف الفوري لعدوانها على قطاع غزة لرفع القيود. وشمل الحظر تصدير وقود الطائرات وحديد البناء والصلب المسطح والرخام والسيراميك وغيرها.

وأعقب ذلك القرار الرسمي الأخير بإعلان قطع جميع العلاقات التجارية مع إسرائيل، وأكد وزير التجارة التركي عمر بولات أن العلاقات لن تستأنف إلا بعد التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة وتدفق المساعدات الإنسانية دون عوائق إلى غزة. الفلسطينيون هناك. وبذلك، ستكون تركيا أول الشركاء التجاريين الرئيسيين لإسرائيل الذي يوقف الصادرات إليها والواردات منها بسبب حربها على غزة.

ومن الجدير بالذكر هنا أننا، للمرة الأولى، نشهد خلافات سياسية تؤثر على التجارة. وقعت تركيا العديد من الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، كما وقعت بعد صعوده إلى السلطة العديد من الاتفاقيات الجديدة التي أدت إلى تصاعد العلاقات الاقتصادية بينهما، مما جعلهما شريكين تجاريين رئيسيين. وحرص الطرفان على إبقاء هذه العلاقات منفصلة عن الخلافات السياسية بينهما، وظهر ذلك في زيادة أرقام التجارة بينهما، رغم الخلاف السياسي الذي أعقب الهجوم الإسرائيلي على سفينة مافي مرمرة عام 2010، مع الصادرات التركية. ومستمرة في الارتفاع بشكل متواصل رغم الصدامات السياسية المستمرة خلال الفترة الماضية.

وبحسب أرقام الميزان التجاري بين البلدين، صدرت تركيا منتجات إلى إسرائيل بقيمة تزيد على 5.4 مليار دولار، حيث احتلت إسرائيل المركز 13 في قائمة الدول الأكثر استيرادا للمنتجات التركية عام 2023، لتشكل 2.1 في المائة من إجمالي الصادرات التركية. وكانت أهم صادرات أنقرة إلى إسرائيل هي الصلب والمركبات والبلاستيك والأجهزة الكهربائية والآلات، في حين هيمن الوقود على الواردات بتكلفة بلغت 634 مليون دولار العام الماضي.

وتعكس هذه الأرقام الصعوبة التي واجهتها تركيا في اتخاذ هذا القرار، حيث ستتضرر العديد من الشركات التركية التي كانت لديها عقود تصدير وأنتجت تلك الطلبيات. وقد عبر المسؤولون الأتراك عن ذلك من خلال التأكيد على أن الخسائر الاقتصادية المؤكدة كانت ثمنًا بسيطًا للمكاسب الإنسانية. كما أكد أردوغان أن تركيا مستعدة لدفع ثمن هذا القرار على المستوى العالمي.

رأي: وهاجمت إسرائيل حرية التعبير بإغلاق مكتب قناة الجزيرة في القدس

ومن المؤكد أن الوضع الحرج للاقتصاد التركي هو أحد الأسباب الرئيسية التي أخرت اتخاذ هذا القرار في وقت سابق، خاصة في ظل تفاقم أزمة التضخم التي وصلت إلى 70 في المائة تقريبا نهاية نيسان/أبريل الماضي، وتفاقم أزمة التضخم. استمرار تراجع سعر صرف الليرة، التي يتوقع البنك المركزي التركي أن يتراجع إلى 40 ليرة للدولار بنهاية العام الجاري، مقارنة بـ 32.5 ليرة فقط حاليا.

وكانت الإدارة التركية تعتمد بشكل كبير على زيادة الصادرات لسداد جزء من الالتزامات الخارجية التي تسببت في انخفاض الليرة خلال السنوات الثلاث الماضية، لكن مع قرار تعليق التجارة مع إسرائيل، وبحسب جمعية مصدري تركيا، فإن الحكومة سيتعين عليها خفض أهداف التصدير لنهاية العام إلى 260 مليار دولار بدلاً من 267 مليار دولار، ما لم يتم استئناف التجارة مع إسرائيل في غضون شهرين.

ورغم أن خسائر الاقتصاد التركي قد تمتد أيضاً إلى التعويضات القانونية التي تضطر الشركات إلى دفعها إذا لجأت الشركات الإسرائيلية إلى المحاكم الدولية، إلا أنه من المؤكد أن خسائر إسرائيل ستكون كبيرة نتيجة القرار التركي، خاصة أن قطاعات إسرائيلية مهمة تعتمد على على الواردات التجارية بنسب كبيرة جداً. وفي المقدمة يأتي قطاع البناء، الذي يستورد ما يقرب من 70% من احتياجاته من الصلب والأسمنت من تركيا، وهو القطاع الذي يعاني أكثر من غيره بعد الحرب غير المشروعة على قطاع غزة.

كما ستسبب القرارات التركية المزيد من المعاناة للاقتصاد الإسرائيلي برمته، نظرا لصعوبة تعويض هذه الواردات على المدى القصير. وفي حال تم الاتفاق مع شركات جديدة من دول أخرى، فمن المؤكد أن تكاليف الاستيراد سترتفع مقارنة بالمنتج التركي الذي يتمتع بتكلفة شحن أقل نتيجة القرب الجغرافي، بالإضافة إلى مميزاته التنافسية العالمية. وهذا ما أكده بنك الاستثمار الأميركي جيه بي مورغان، الذي قال إن التوقف قد يرفع ضغوط أسعار البضائع في إسرائيل بشكل هامشي على المدى القصير.

كما أن من بين الخسائر الإسرائيلية، بحسب نيويورك تايمزلكن الحقيقة هي أن تعليق تركيا المعلن لجميع أشكال التجارة مع إسرائيل قد يكون الأحدث في سلسلة تجعل عزلة إسرائيل أكبر مما كانت عليه خلال الأشهر القليلة الماضية. كما أشارت إلى أن هذا القرار قد يشجع الدول الأخرى على اتخاذ خطوات مماثلة. وهذا ما أكده أردوغان بقوله إنه يعتقد أن هذا سيكون عبرة للدول الأخرى غير الراضية عن الوضع الحالي.

لا شك أن الخطوة التركية الأخيرة تستحق الترحيب، حتى لو جاءت متأخرة، خاصة وأن الاقتصاد التركي سيتكبد خسائر كبيرة خلال الأوقات الصعبة التي يمر بها. وذلك بغض النظر عما إذا كانت الشركات تجاوزت القرار بالتصدير عبر وسطاء في دول أخرى أم لا، وما إذا كان هناك حديث عن ضرورة تغيير المواقف بعد نتائج الانتخابات الأخيرة. وما زال من الضروري الإشادة بالقرار والاعتراف بأنه قرار غير مسبوق وتاريخي، والإشارة إلى أن الأمتين العربية والإسلامية تتطلعان إلى اتخاذ قرارات مماثلة قريبا.

رأي: إسرائيل تريد تدمير غزة وضم الضفة الغربية، لكن ماذا يريد الفلسطينيون؟

ظهر هذا المقال باللغة العربية في العربي في 7 مايو 2024.

الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.

الرجاء تمكين جافا سكريبت لعرض التعليقات.
شاركها.
Exit mobile version