جلسة البرلمان كانت حلقة أخرى من المشاهد الغريبة التي شهدتها تونس في السنوات الأخيرة. وتمكن البرلمان، الذي يوصف ببرلمان قيس سعيد، من عزل الأقلية التي أعلنت تمردها ورفضت شرعنة مشروع قانون الانتخابات وإضعاف المحكمة الإدارية. ومن هنا تمكنت الأغلبية من إقرار المشروع، ودافعت عنه بإصرار كبير، بحجة «وجود خطر داهم»، وهي الحجة التي أصبحت تستخدم على نطاق واسع كلما حدث تعارض بين الآليات الدستورية والديمقراطية والحكومة. مصالح الرئاسة. وعندما سألهم زملاؤهم في البرلمان عن طبيعة هذا الخطر الداهم، تحدثوا معهم عن عملاء الاستعمار والتهديدات الخارجية وذكّروهم بالحروب التي اندلعت في ليبيا والسودان واليمن.
وحاول أعضاء في البرلمان تحدي هذا الفخ، لدرجة أن أحدهم أعلن أن «القانون غير دستوري، والتعديل جريمة في حق الدولة». وهو ما اتفق عليه خبراء قانونيون، بينهم قيس سعيد، الذي اعتبر تعديل قانون الانتخابات قبل أشهر قليلة من الانتخابات بمثابة “اغتيال للديمقراطية”. وقام بتشغيل البيان الإذاعي لزملائه خلال الجلسة، فسحب رئيس مجلس النواب الكلمة منه بحجة أنه «من غير المقبول إذاعة كلام شخص آخر». وحتى مجلس القضاء الأعلى المؤقت (الذي عدل رئيس الدولة هيكلته) أرسل رسالة أبلغ فيها البرلمان برفضه التعديل. وعلى الرغم من ذلك، تمت الموافقة على التعديل بأغلبية مريحة. فماذا سيحدث خلال الأيام العشرة التي تفصل بين التونسيين ابتداء من 6 أكتوبر 2024؟
يقرأ: من هو محمد غارد مستشار النهضة السابق؟
ومن المتوقع أن تصعد المعارضة لهجتها وتحركاتها الاحتجاجية، رغم اختلاف مواقف أحزابها بشأن المشاركة في التصويت من عدمه. والذين دعوا إلى التصويت بأعداد كبيرة للمرشح عياشي زامل، ويعملون على زيادة رصيده الانتخابي، يجدون أنفسهم الآن، في ظل سحب البساط من تحت المحكمة الإدارية، غير قادرين على قلب الطاولة كما خططوا. وذلك لأنه مهما بلغ عدد الأصوات التي سيفوز بها مرشحهم المحكوم عليه بالسجن سنة وثمانية أشهر، فلن يتم قبوله، ولن يجدوا لجنة محايدة تنصفه. أما من قرر الاستمرار في اللجوء إلى القضاء، فإن تغيير قواعد اللعبة يعني خسارة سلاح كان فعالا قبل انحياز البرلمان إلى قيس سعيد.
ما حدث في مجلس النواب عمق الأزمة السياسية ووسع دائرة المشككين في مصداقية ونزاهة الانتخابات المقبلة. ورغم ضعف البرلمان الحالي منذ انتخابه، إلا أن جلسة الجمعة الماضية دمرته تماما وحولته إلى نسخة غير صالحة للاستعمال، ولا تصلح حتى للدفاع عن سعيد، الذي كان بإمكانه الاستناد إلى المادة 90 من الدستور دون المرور على البرلمان، بإصدار مرسوم مرسوماً بتقليص صلاحيات المحكمة الإدارية أسوة ببقية الهياكل القضائية. ولم يعد مهتماً بالجوانب القانونية والرسمية لإدارة شؤون الدولة. فهو يؤمن فقط بأن رسالته السياسية يجب أن تستمر، ويرفض السماح لأي قوة على وجه الأرض بمحاولة إعاقته ومنعه من استكمال مشروعه. إن معركة «التحرير الوطني» التي يقودها منذ ثلاث سنوات هي أهم وأقدس بالنسبة له من أي انتخابات أو أي إقبال يوم الانتخابات. لقد حاصر خصومه ودفعهم نحو خيارات صعبة.
ومن أخطر القضايا التي كشفت عنها التطورات مؤخراً، نجاح السلطات في تطويق الأحزاب والتضييق على الجهات الوسيطة. وعلى الرغم من المحاولات التعبئة التي بدأتها الشبكة التونسية للديمقراطية والحريات لتفعيل دور المجتمع المدني، خاصة من خلال حث الشباب على المساهمة، مرة أخرى، في خلق مناخ مناهض لسعيد، فإن المسافة بين الحركات الناشطة في البلاد ما زالت بعيدة. لا يزال عميقا.
وفي كل الأحوال، فإن الأزمة السياسية ستزداد تعقيداً بعد الانتخابات، إذ من غير المرجح أن يكون هناك تغيير جوهري في المشهد خلال الأيام المقبلة. لكن أنصار الرئيس المنتهية ولايته لن يطمئنوا حتى إعلان فوز سعيد بولاية ثانية، لكن التكلفة السياسية والاقتصادية ستكون باهظة.
يقرأ: المعارضة التونسية تطالب البرلمان بعدم النظر في تعديلات القانون المثيرة للجدل قبل الانتخابات
ظهر هذا المقال باللغة العربية في العربي في 30 سبتمبر 2024.
الآراء الواردة في هذا المقال مملوكة للمؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لميدل إيست مونيتور.