تُظهر صور نادرة لأيرلندا التقطت عام 1963، حياةً على وشك التغيير، وعالمًا يوشك على الانقراض. هذه اللقطات بالأبيض والأسود، التي وثقها المصور الألماني ديثر إندليشر، تقدم نافذة فريدة على أيرلندا قبل أن تشهد التحولات العميقة نحو الحداثة. تعيد هذه الصور اكتشاف أيرلندا القديمة، وتكشف عن تفاصيل الحياة اليومية التي لم تعد موجودة اليوم.
اكتشاف كنز من الماضي: صور ديثر إندليشر النادرة لأيرلندا
بعد عقود من الغياب، عادت صور ديثر إندليشر إلى الظهور، لتنقلنا في رحلة عبر الزمن إلى أيرلندا في أوائل الستينيات. هذه الصور، التي ظلت مخبأة في علية منزله، تمثل شهادة بصرية على نمط حياة تقليدي كان سائداً في تلك الفترة. إندليشر، الذي أصبح فيما بعد مصورًا أولمبيًا مشهورًا، كان حينها شابًا يبلغ من العمر 22 عامًا، يسافر مع صديقه بسيارة فيات 500 الصغيرة، المعروفة باسم “بامبينو”، في رحلة استكشافية للساحل الغربي لأيرلندا.
رحلة برية إلى قلب أيرلندا في الستينيات
لم تكن رحلة إندليشر وصديقه سهلة، فالسيارة الصغيرة لم تكن مهيأة للطرق الوعرة. ومع ذلك، لم تثنهم هذه الصعوبات عن الوصول إلى وجهتهم. في إحدى القرى، التقوا برجل كان ينقل العشب إلى جزيرة إنيشمان، إحدى جزر آران في خليج غالواي، على متن سفينة شراعية تقليدية. قرر المصور الشاب مرافقة هذا الرجل والتقاط صور للحياة على الجزيرة.
وصف إندليشر إنيشمان بأنها “عالم مختلف”، حيث كان الناس يعيشون حياة بسيطة تعتمد على الزراعة والصيد. شاهد الفلاحين وهم يدرسون الشعير بالطرق التقليدية، والصيادين وهم يعملون بجد لكسب عيشهم. كانت الملابس مصنوعة يدويًا من التويد، ولم تكن الكهرباء متوفرة في الجزيرة. كانت الحياة تدور حول إيقاع الطبيعة والتقاليد العريقة.
تحديات التصوير في مجتمع محافظ
واجه إندليشر بعض الصعوبات في إقناع السكان المحليين بالسماح له بتصويرهم. كانت جزر آران جزءًا من منطقة “الجايلتاخت”، وهي المنطقة الناطقة باللغة الأيرلندية، حيث لم يكن معظم الناس يتحدثون الإنجليزية. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك شعور بالتحفظ تجاه الكاميرات والأجانب.
على الرغم من هذه التحديات، تمكن إندليشر من التقاط صور مؤثرة تعكس الحياة اليومية للناس في إنيشمان. تظهر الصور رجال القوارب، والصيادين، والعمال، والرعاة وهم يأخذون حيواناتهم إلى الأسواق، والنساء ينقلن الحليب بعربات يجرها حمار، وجنازة، ومصلين متدينين يصلون على الآثار في الحقول ذات الجدران الحجرية، وأديرة مدمرة، ومناظر طبيعية خلابة، وأطفال ينظرون إلى أجهزة التلفاز من خلال نافذة متجر. هذه الصور هي بمثابة توثيق تاريخي للحياة في أيرلندا قبل أن تتغير إلى الأبد.
تكريم المصور الألماني في برلين
في نهاية الأسبوع الماضي، كُرّم ديثر إندليشر في السفارة الأيرلندية في برلين، تقديرًا لدوره في توثيق لحظات الحياة الأيرلندية من تلك الحقبة. أشادت السفيرة الأيرلندية لدى ألمانيا، مايف كولينز، بـ “التفاصيل الجميلة” للصور وأهميتها التاريخية، مؤكدة أنها تقدم “تعبيرًا حيًا عن التجربة الحياتية للناس على الساحل الغربي لأيرلندا في أوائل الستينيات”.
هذا التكريم يعكس الاعتراف بأهمية عمل إندليشر في الحفاظ على ذاكرة التراث الأيرلندي، وتقديمه للعالم.
من أيرلندا إلى الألعاب الأولمبية: مسيرة مصور عالمي
لم تكن أيرلندا المحطة الوحيدة في مسيرة إندليشر المهنية. بعد تلك الرحلة، عاد إلى العمل في وكالة أسوشيتد برس، حيث غطى 29 دورة أولمبية، بالإضافة إلى العديد من الأحداث العالمية الكبرى. كان إندليشر معروفًا بشجاعته وإصراره على الوصول إلى أفضل المواقع لالتقاط الصور، حتى في ظل الظروف الصعبة والخطيرة.
شهد إندليشر أحداثًا تاريخية مثل الهجوم على الدورة الأولمبية في ميونيخ عام 1972، والانتفاضة الأولى في غزة، وسقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي. في كل هذه الأحداث، كان إندليشر حاضرًا، يلتقط الصور التي وثقت لحظات مفصلية في تاريخ العالم.
المخاطر والتضحيات في عالم الصحافة
يتذكر إندليشر المخاطر التي واجهها خلال عمله كصحفي، بما في ذلك إجباره على تسليم فيلمه من قبل الجنود الإسرائيليين بعد أن التقط صورًا لهم وهم يضربون طفلاً فلسطينياً. يقول إندليشر إنه يعتقد أن هناك ضرورة لتحمل المخاطر من أجل التقاط الصور، والإدلاء بالشهادة. ويشير إلى زميله السابق في وكالة أسوشيتد برس، أنجا نيدرينغهاوس، التي قُتلت في أفغانستان عام 2014، قائلة إنها “دفعت حياتها ثمناً”.
ويضيف إندليشر أن العمل كصحفي يتطلب تضحيات شخصية، بما في ذلك صعوبة الحفاظ على الصداقات والعلاقات العائلية. ومع ذلك، يؤكد أنه لا يزال سعيدًا بالمسيرة التي اختارها، وبأنه تمكن من المساهمة في توثيق تاريخ العالم.
في الختام، تُعد صور ديثر إندليشر النادرة لأيرلندا بمثابة كنز دفين، يعيدنا إلى عالم مضى، ويذكرنا بأهمية الحفاظ على الذاكرة الجماعية والتراث الثقافي. هذه الصور ليست مجرد وثائق تاريخية، بل هي أيضًا أعمال فنية مؤثرة، تلامس قلوبنا وتثير مشاعرنا. ندعوكم لاستكشاف هذه الصور الرائعة، والتأمل في الحياة التي كانت سائدة في أيرلندا قبل عقود من الزمن.

