في فترة ما بعد الظهر الهادئة، تحولَت كنيسة الثالوث التاريخية في قلب مانهاتن إلى قاعة دروس غير تقليدية. هنا، تجمع المئات من طلاب المدارس الثانوية للاستماع إلى درس فريد من نوعه: “من يروي قصتك؟”. لم يكن المعلمون مجرد أكاديميين، بل شخصيتان بارزتان في عالم الإبداع والثقافة، وهما صانع الأفلام الوثائقية الحائز على جوائز، كين بيرنز، ومبتكر مسرحية “هاميلتون” الشهيرة، لين مانويل ميراندا. هذا الحدث ليس مجرد لقاء طلابي، بل هو جزء من إطلاق أحدث أعمال بيرنز الوثائقية، “الثورة الأمريكية”، والتي تعد بإعادة النظر في تاريخ تأسيس الولايات المتحدة بطريقة شاملة ومؤثرة. هذا الفيلم الوثائقي الضخم يطرح أسئلة مهمة حول الثورة الأمريكية وكيف يتم تذكرها.

فيلم “الثورة الأمريكية” يثير تساؤلات حول سرد التاريخ

“لا أستطيع أن أصدق أن هذه الكنيسة شهدت صوتًا أعلى من ذلك حتى الآن”، هكذا علّق بيرنز وهو يرى حماس الطلاب وتفاعلهم مع ميراندا. هذا التفاعل لم يكن مفاجئًا، فمسرحية “هاميلتون” أعادت إحياء الاهتمام بتاريخ الثورة الأمريكية، بينما يسعى بيرنز في فيلمه الجديد إلى تقديم سرد أكثر تعقيدًا وشمولية. الفيلم، المكون من ستة أجزاء ويمتد لأكثر من 12 ساعة، لا يركز فقط على الشخصيات البارزة، بل يسلط الضوء على قصص أولئك الذين غالبًا ما يتم تهميشهم في الروايات التقليدية، كالمراة والعبيد والسكان الأصليين.

بيرنز وميراندا يؤكدان على أهمية فهم من الذي يمتلك حق سرد القصة، وكيف يؤثر ذلك على إدراكنا للماضي. “نحن نعمل على سرد القصص. أنا أتعامل في الواقع، ولين مانويل يمكنه اختلاق الأمور. لكن السؤال، من الذي يروي قصتك، هو السؤال المؤثر للإنسانية.” يقول بيرنز. يضيف ميراندا أن الفيلم يتناول سؤالًا أساسيًا وهو: “كيف يمكننا أن نفهم أهداف الثورة ومعناها، وكيف يتغير هذا الفهم بمرور الوقت؟”.

فريق عمل الفيلم الوثائقي: نخبة من المؤرخين وصانعي الأفلام

لتحقيق هذا الهدف الطموح، لم يدخر فريق بيرنز جهدًا في البحث والتحليل. اعتمدوا على آلاف الكتب والمصادر التاريخية، واستعانوا بنخبة من المؤرخين والخبراء. يصف ميراندا هذا الفريق بأنه “المنتقمون” – مجموعة من العقول المضيئة والمشهود لها بالكفاءة، بما في ذلك توم هانكس وميريل ستريب ومورغان فريمان ولورا ليني.

بالإضافة إلى ذلك، يضم الفيلم تعليقات من مؤرخين بارزين مثل جوردون وود وبرنارد بيلين، بالإضافة إلى مؤرخين غير أكاديميين مثل ستايسي شيف وريك أتكينسون. كما يشارك علماء من مختلف المجالات، بما في ذلك خبراء في العبودية وتاريخ الأمريكيين الأصليين والإمبراطورية البريطانية، في تقديم رؤى جديدة ومختلفة حول أحداث الثورة الأمريكية.

“الأمر معقد”: نهج بيرنز في التاريخ

يتمسك بيرنز بفلسفة تؤكد على تعقيد التاريخ، وهو ما يعكسه شعاره الذي وضعه في غرفة تحريره: “الأمر معقد”. وهو يرفض التبسيط أو الاختزال، ويدعو إلى فهم شامل ومتوازن للأحداث والشخصيات التاريخية. في حديثه مع الطلاب، أوضح أن جورج واشنطن، على الرغم من مكانته كأحد الآباء المؤسسين، كان “معيبًا للغاية” بسبب امتلاكه للعبيد. ولكنه أضاف أنه “لا يمكننا الاستغناء عنه في بناء هذا البلد”.

هذا النهج يتماشى مع روح العصر، حيث يزداد الوعي بالحاجة إلى إعادة تقييم التاريخ من منظورات مختلفة، والاعتراف بالأخطاء والظلم الذي ارتكب في الماضي. وفي هذا السياق، يذكر بيرنز برفضه لأي مقارنة بين الحاضر والماضي. الفيلم لا يتبنى وجهة نظر سياسية محددة، بل يقدم سردًا موضوعيًا وشاملاً يسمح للمشاهدين بتكوين آرائهم الخاصة.

صدى الفيلم في ظل الاستعداد للذكرى الـ 250 لتأسيس البلاد

يأتي إطلاق فيلم “الثورة الأمريكية” في توقيت حرج، حيث تستعد الولايات المتحدة للاحتفال بالذكرى الـ 250 لتأسيسها. هذه المناسبة تزامنت مع فترة من الانقسام السياسي والاجتماعي العميق، مما أثار جدلاً حول كيفية تذكر الماضي وتفسيره. فمن جهة، يطالب البعض بـ “احتفال كبير” يعكس فخرًا بالإنجازات التاريخية، بينما يركز آخرون على الجوانب المظلمة من التاريخ، مثل العبودية واقتلاع السكان الأصليين.

فيلم بيرنز يسعى إلى تقديم سرد يراعي كلا الجانبين، ويسلط الضوء على التناقضات والتحديات التي واجهت المؤسسين، بالإضافة إلى إنجازاتهم. وهو يهدف إلى إلهام الحوار والنقاش حول معنى التاريخ الأمريكي، وكيف يمكننا أن نتعلم من الماضي لبناء مستقبل أفضل.

ميراندا يشارك بيرنز في هذه الرؤية، مؤكدًا على أن “التناقضات الموجودة عند التأسيس لا تزال تناقضات، بنفس الطريقة التي تكون بها المعارك مع إخوتك هي معارك عائلتك”. الفيلم يذكرنا بأن فهم التاريخ الأمريكي يتطلب منا مواجهة الحقائق الصعبة والتخلي عن الروايات المبسطة والمثالية.

في الختام، فيلم “الثورة الأمريكية” ليس مجرد عمل تاريخي، بل هو دعوة للتفكير النقدي والحوار المفتوح حول ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. من خلال سرد القصص الهامة والتأمل في أسئلة عميقة، يقدم بيرنز وميراندا مساهمة قيمة في فهم التاريخ الأمريكي وتعزيز الوعي بأهمية سرد القصص. شاهد الفيلم الوثائقي واكتشف بنفسك كيف يمكن لتاريخنا أن يلهمنا ويقودنا إلى الأمام.

شاركها.
Exit mobile version