نابولي، إيطاليا (أ ف ب) – أخيرًا، وصل التبرير للملحن الحائز على جائزة الأوسكار الذي سعى إلى إثبات أنه قادر على بث الحياة في المسارح الكبرى في إيطاليا كما هو الحال في أفلام هوليوود الجريئة. ليلة الجمعة، نظم مسرح سان كارلو في نابولي إحياءً لأوبرا إنيو موريكوني الوحيدة “بارتينوب” بعد ثلاثة عقود كاملة من تأليفها. هذا الحدث التاريخي لم يكن مجرد عرض موسيقي، بل كان تتويجًا لرحلة فنان عبقري سعى للقبول في عالم الأوبرا الإيطالية الرفيع.
أسطورة بارتينوب تعود إلى الحياة على مسرح سان كارلو
تستلهم الأوبرا من أسطورة بارتينوب، الحورية التي أغرقت نفسها بعد فشلها في سحر يوليسيس، وانجرف جسدها إلى الشاطئ ليصبح نواة مدينة نابولي. هذه الأسطورة ليست مجرد حكاية قديمة، بل هي جزء لا يتجزأ من الهوية النابولية، حيث يرى السكان المحليون في صوت بارتينوب رمزًا لروح مدينتهم الدائمة. تم تصويرها في العديد من الأعمال الفنية على مر القرون، بما في ذلك نافورة فونتانا ديلا سيرينا الشهيرة، التي تعتبر من أبرز معالم المدينة.
عندما كتب إنيو موريكوني “بارتينوب” في عام 1995، كان بالفعل اسمًا لامعًا في عالم الموسيقى، بفضل أعماله الرائدة في أفلام “الويسترن سباغيتي” مثل “The Good, the Bad and the Ugly” والموسيقى التصويرية المؤثرة لأفلام ملحمية مثل “The Untouchables” و”Once Upon a Time in America”. على الرغم من حصوله على جائزة الأوسكار عن مجمل إنجازاته في عام 2007، إلا أن أعماله لم تحظَ بالتقدير الكافي في دور الأوبرا الإيطالية، وهو الأمر الذي أثار استياءه الشديد.
سنوات من الانتظار: تحقيق حلم موريكوني
ظلت مخطوطة “بارتينوب” مغبرة لعقود، ولم يرَ الموسيقي الإيطالي حلمه يتحقق بتقديم عمله الأوبرالي على خشبة المسرح. توفي موريكوني دون أن يشهد هذا الإنجاز، مما زاد من أهمية هذا العرض التاريخي. أعرب أليساندرو دي روزا، أحد المتعاونين المقربين الذين شاركوا في تأليف السيرة الذاتية لموريكوني، عن اعتقاده بأن تأخر عرض الأوبرا كان قدرًا محتومًا، ولكنه أكد أيضًا على أن موريكوني كان سيقبل التحدي ويتعاون مع الأوركسترا والمخرج بكل شغف.
تحديات الإنتاج: تفسير رؤية موريكوني
كان على المخرجة فانيسا بيكروفت والموصل ريكاردو فريزا مهمة صعبة في إحياء رؤية موريكوني دون الاستفادة من ملاحظاته المباشرة. أوضح فريزا أنهم اضطروا إلى فهم اختيارات موريكوني الموسيقية من خلال العمل نفسه، ومحاولة تفسيرها بأفضل طريقة ممكنة. على سبيل المثال، لاحظ فريزا أن موريكوني اختار عدم استخدام الكمان في الأوركسترا، مفضلاً استخدام المزامير والقيثارات والأبواق، التي تعكس الأجواء الأسطورية اليونانية.
الأصوات النابولية في الأوبرا
أضاف فريزا أن الأوبرا تتميز بدمجها للأصوات النابولية التقليدية، مثل الدفوف والبوتيبو (طبلة الاحتكاك المستخدمة في الموسيقى الشعبية المحلية)، بالإضافة إلى الآلات الحديثة والإيقاعية. هذا المزيج الفريد من الآلات يعكس التراث الثقافي الغني لمدينة نابولي. كان مسرح سان كارلو يعج بالترقب مساء الخميس خلال البروفة المفتوحة، حيث احتشد النابوليتانيون لمشاهدة هذا الحدث التاريخي. تم توزيع التذاكر المجانية في غضون ساعات قليلة، مما يدل على الاهتمام الكبير الذي أثارته الأوبرا.
نابولي تحتفل بأسطورتها وتراثها
تأتي أوبرا “بارتينوب” في سياق احتفالات نابولي بالذكرى السنوية الـ 2500 لتأسيسها. تمثل هذه الأوبرا ذروة هذه الاحتفالات، حيث تحتفي بأسطورة المدينة وتراثها الثقافي. نابولي نفسها تشهد نهضة جديدة، حيث اعترفت الأمم المتحدة بجهودها في الحفاظ على التقاليد المحلية، مثل فن صناعة البيتزا الذي تم إدراجه كتراث ثقافي غير مادي للإنسانية. كما شهدت المدينة نجاحات في مجالات أخرى، مثل الأدب (روايات إيلينا فيرانتي) وكرة القدم (فوز فريقها بكأس الدوري الإيطالي).
إرث موريكوني: “العذاب” يتحول إلى احتفاء
كان إنيو موريكوني قد ألّف الأوبرا في الأصل مجانًا لمهرجان صغير في بوسيتانو، جنوب نابولي. ولكن المهرجان أفلس، وتأجل عرض “بارتينوب”. على مر السنين، كانت هناك عدة محاولات لإحياء العمل، ولكنها باءت بالفشل بسبب صعوبات في الإنتاج. أعرب جويدو باربيري، أحد مؤلفي النص، عن حزن موريكوني بسبب عدم قبوله كمؤلف “موسيقى مطلقة”، على الرغم من نجاحه الكبير في مجال الموسيقى التصويرية للأفلام. ومع ذلك، يبدو أن موريكوني قد تقبل هذا الأمر في سنواته الأخيرة، وأصبح أكثر سلامًا مع مسيرته الموسيقية.
قال جيوفاني كابوانو، وهو طالب سينما يبلغ من العمر 26 عامًا، بعد حضور البروفة: “لقد كان من دواعي سروري الاستماع إلى موسيقى موريكوني، البطل الحقيقي لهذه الأوبرا. لقد عادت روحه وسحرتنا.” أخيرًا، وبعد عقود من الانتظار، بدأ عمل إنيو موريكوني ينبض بالحياة، لينضم إلى صفوف الأعمال الأوبرالية الخالدة. هذا الحدث ليس مجرد احتفاء بموهبة موريكوني، بل هو أيضًا شهادة على قوة الأساطير وقدرتها على إلهام الأجيال.

