في خضم التوترات الجيوسياسية المتزايدة وتطورات الأوضاع في أوكرانيا، اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوة حاسمة نحو تعزيز قدراته الدفاعية. فقد صوت المشرعون الأوروبيون يوم الثلاثاء لصالح خطة طموحة لتعميق التكامل في صناعة الدفاع الأوروبية، مع إيلاء اهتمام خاص بدعم أوكرانيا في هذا المجال. تأتي هذه الخطوة في ظل تقييم أوروبي متزايد لأهمية الاستقلالية الدفاعية، خاصةً بعد التغيرات في السياسة الأمريكية والعمليات الحربية الروسية.

تحول استراتيجي في الاتحاد الأوروبي: دعم أوكرانيا وتعزيز القدرات الدفاعية

يمثل هذا التصويت تحولًا كبيرًا في سياسة الاتحاد الأوروبي، التي كانت تاريخيًا تركز على التعاون الاقتصادي والتجاري. فالحرب في أوكرانيا كشفت عن نقاط ضعف في البنية الدفاعية الأوروبية، وأبرزت الحاجة إلى زيادة الإنفاق والاستثمار في تطوير القدرات العسكرية. الخطة الجديدة، التي تبلغ قيمتها 1.5 مليار يورو (1.7 مليار دولار)، تتضمن تخصيص 300 مليون يورو (345 مليون دولار) بشكل مباشر لأداة دعم أوكرانيا، مما يعكس التزام الاتحاد الأوروبي بدعم كييف في مواجهة التحديات الأمنية.

رافاييل جلوكسمان، المشرع الأوروبي الفرنسي، وصف البرنامج بأنه “سيمكننا من بناء أوروبا أكثر مرونة وسيادة” من خلال الشراكة مع أوكرانيا لتطوير مجمع صناعي عسكري متطور. وأضاف أن هذا الأمر “أساسي للتأكد من أننا قادرون على حماية ديمقراطياتنا بشكل فعال ومستقل”. هذا التصريح يلخص الفلسفة الكامنة وراء هذه المبادرة، وهي بناء قدرة دفاعية أوروبية قوية ومستقلة، قادرة على مواجهة التهديدات المحتملة وحماية مصالح الكتلة.

الاستثمار الدفاعي الأوروبي: أرقام متزايدة وأهداف طموحة

من المتوقع أن يصل إجمالي الإنفاق الدفاعي للاتحاد الأوروبي إلى حوالي 392 مليار يورو (أكثر من 450 مليار دولار) هذا العام، وهو ما يمثل زيادة كبيرة مقارنة بنحو 200 مليار يورو قبل أربع سنوات. هذا الارتفاع يعكس الوعي المتزايد بالتهديدات الأمنية، والاستعداد لزيادة الاستثمار في هذا المجال. وتتوقع المفوضية الأوروبية أن يتم إنفاق حوالي 3.4 تريليون يورو على الدفاع على مدى العقد المقبل.

لمواكبة هذا النمو المتوقع، تعتزم المفوضية الأوروبية اقتراح تعزيز الميزانية طويلة الأجل للاتحاد الأوروبي للدفاع والفضاء إلى 131 مليار يورو (153 مليار دولار). هذا التمويل الإضافي سيساعد في دعم المشاريع الدفاعية الأوروبية، وتشجيع الابتكار، وتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء. الهدف النهائي هو بناء صناعة دفاعية أوروبية متكاملة وقادرة على المنافسة على المستوى العالمي.

تأثير السياسة الأمريكية وتوجهات الاتحاد الأوروبي

لقد أثرت التغيرات في السياسة الأمريكية بشكل كبير على هذه التوجهات. فإدارة ترامب أبدت اهتمامًا أكبر بأمن الولايات المتحدة على حدودها الداخلية وفي آسيا، وأشارت إلى أن أوروبا يجب أن تتحمل المزيد من المسؤولية عن دفاعها. هذا التحول دفع الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم اعتماده على الولايات المتحدة في مجال الأمن والدفاع، والبدء في تطوير قدراته الخاصة.

التحول في السياسة الأمريكية هذا، بالإضافة إلى التحديات التي فرضتها الحرب في أوكرانيا، حفزت الاتحاد الأوروبي على تبني استراتيجية دفاعية أكثر طموحًا واستقلالية. فالكتلة التي نشأت من رحم الحربين العالميتين، والتي كانت تهدف في الأصل إلى تجنب الصراع من خلال التعاون الاقتصادي، وجدت نفسها مضطرة إلى إعادة التفكير في دورها في الأمن العالمي.

خريطة طريق لتعزيز الصناعة الدفاعية وتكاملها

تتضمن خطة الاتحاد الأوروبي خريطة طريق تهدف إلى تبسيط وتوحيد القواعد التنظيمية المتعلقة بالصناعة الدفاعية، وحشد الاستثمار في الإنتاج المحلي للأسلحة والمركبات والأقمار الصناعية والذخيرة. وتشجع الدول الأعضاء على شراء المعدات العسكرية داخل الكتلة، والعمل بشكل أساسي مع الموردين الأوروبيين.

كما تتيح الخطة للشركات الأوكرانية المشاركة في المشاريع الدفاعية الأوروبية، مما يسمح بدمج الابتكارات العسكرية الأوكرانية في الصناعة الأوروبية. وتشمل هذه المشاريع مبادرات مثل Eastern Flank Watch، ومبادرة الدفاع عن الطائرات بدون طيار، و Space Shield. وتقدم هذه المشاريع حوافز ضريبية ومالية للشركات الأوروبية للمساهمة في تطوير تقنيات دفاعية متقدمة.

الاستقلالية الدفاعية كهدف استراتيجي

أكد أندريوس كوبيليوس، مفوض الدفاع بالاتحاد الأوروبي، على أهمية الاستقلالية الدفاعية، قائلاً: “سنكون أقوياء من الناحية الجيوسياسية إذا كنا أقوياء في دفاعنا، وسنكون أقوياء في الدفاع إذا كنا أقوياء في صناعتنا الدفاعية، وإذا كنا أقوياء في صناعتنا الدفاعية، فسنكون مستقلين صناعياً وأقل انقساماً بكثير”.

وأضاف كوبيليوس، مستشهدًا بتجربة بلاده ليتوانيا مع الاحتلال السوفيتي، أن الهدف من هذه الخطة هو التأكد من عدم قدرة الدول الكبرى على الاستيلاء على أراضي الدول الأضعف. هذا التأكيد على أهمية الاستقلالية الدفاعية يعكس التزام الاتحاد الأوروبي ببناء أوروبا قوية ومستقلة، قادرة على حماية مصالحها وقيمها في عالم يتسم بالصراعات والتوترات.

في الختام، يمثل قرار الاتحاد الأوروبي بتعميق التكامل في صناعة الدفاع الأوروبية ودعم أوكرانيا خطوة استراتيجية هامة نحو تعزيز الأمن والاستقرار في القارة. هذه المبادرة، التي تتضمن استثمارات ضخمة وخريطة طريق طموحة، تهدف إلى بناء صناعة دفاعية أوروبية قوية ومستقلة، قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية وحماية مصالح الدول الأعضاء. من المتوقع أن يكون لهذا القرار تأثير كبير على المشهد الأمني في أوروبا والعالم، وأن يشجع على المزيد من التعاون والتكامل في مجال الدفاع.

شاركها.
Exit mobile version